أين الأرض؟
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
نزلنا ثلاثة أيام في فندق أوانا هوتيل في تلال جنتج هايلاند، وهو من المواقع السياحية المميزة في العاصمة الماليزية كوالالمبور، حيث يتموضع في ذلك المكان أكثر من فندق ومطعم فاخر، إلى جانب مسرح عروض احتفائية ومركز للألعاب والتسلية. كان المنظر الأخضر الخلّاب يتنزّه معك، وأنت ترتحل من أسفل التلال إلى قمّتها عبر التلفريك، حيث ينتابك شعورٌ مفرطٌ كما لو أنك تطير بين الأرض والسماء، وسرعان ما يتعمّق حينما تحطّ قدماك في منصّة الوصول في أعالي التلال الخضراء، والضباب يلفّ المكان من حولك، والسحائب تطوّح عباءاتها عبر الآفاق، والطيور بمختلف أشكالها تصدح بمعزوفاتٍ صوتيةٍ رائعةٍ كالتي نسمعها في قرى الطفولة عند انبلاج الفجر ووقت دنوّ الأصيل.
وضمن يوميات البرنامج التدريبي، شرعت الجهة المنظّمة في نقل مجموعة المتدرّبين إلى فندق آخر في العاصمة الماليزية، وهو سن واي لاجون الذي يقع على شفا حفرة كبيرة استغلّت كمستنقع مائي بأمواج صناعية لتضيف جمالا رائعا إلى ذلك الفندق المتشعّب، الذي يتاخم مجمّعا تجاريا كبيرا ذا طوابق متعدّدة، حيث أخذت بوابته الرئيسية شكل أهرامات القاهرة، حتى أطلق عليه "مركز الأهرامات التجاري". ربما أراد القائمون عليه إعطاء نموذج من حضارات مصر القديمة في إطار تعريف المجتمع الماليزي برمز أساسي من رموز تلك الحضارة الضاربة في القدم. كما تم ربط ذلك المركز بطريقٍ معلق، يؤدّي إلى إحدى الجامعات القريبة منه. ولعل الهدف يتمحور حول ربط ثلاثي بين السياحة والتجارة والعلوم. وفي هذا المركز، كان لنا نحن المتدرّبين قصة أخرى طريفة.
بعد عناء نهار كامل في قاعة التدريب بين محاضرة ونقاش بين المتدرّبين بإثارة الأسئلة بشأن مادة المحاضرة، رغبةً في تحقيق أقصى إفادة منها، تتخلّل ذلك الوقت الطويل فترة قصيرة للغداء، تكاد لا تكفي لالتقاط الأنفاس. ثم نيمّم شطر المركز التجاري، حال انتهاء وقت التدريب عند الخامسة من مساء كل يوم، حيث يمكن الوصول إليه من خلال ممرّ ضيق من الفندق مباشرة، يكاد يتّسع لمرور شخصين فقط في اتجاه متعاكس. المركز عشرة طوابق معظمها تحت الأرض، وعدّة بوابات من مختلف الاتجاهات. وكنا نهيم على وجوهنا بين أروقته ومحلاته ومعروضاته من البضائع والمنتجات الماليزية المحلية التي قطعت شوطا كبيرا في الجودة والتنوّع، بما يوفر بدائل وخيارات كثيرة ترضي فضول (وذائقة) فئات المتسوّقين رجالا ونساء وأطفالا، إلى جانب توفر العلامات التجارية العالمية الآسرة لشهية التسوق، والشيء الوحيد الذي أثار استغرابي أننا كلما تفرّقنا داخل المركز لم يعد بإمكاننا أن نلتقي مرّة أخرى، حتى ولو حدّدنا نقطة التقاء. كنّا نشعر ونحن نجول داخل المركز كما لو كنّا في متاهةٍ لا سبيل إلى الخروج منها، حتى ولو أمضينا نهارا كاملا. كان تصميم المركز من الداخل رائعا وجاذبا يدلّ على ذائقةٍ هندسيةٍ يصعب منافستها. حاولنا غير مرّة أن نحدّد علامة معينة، كمحل تجاري، أو مطعم، أو مكان ألعاب التسلية، ثم نتفرّق بغية العودة إلى تلك العلامة، ولكن من دون جدوى. كنا نسير جيئة وذهابا على أمل أن نلتقي، إلا أننا سرعان ما نجد أنفسنا أمام بوابةٍ من البوابات الرئيسية الكثيرة. وما كان يبعث فينا دهشة أكبر، كيف لتلك البوابات أن تؤدّي بنا إلى مخارج نحو الشوارع الخارجية المحيطة بالمركز من كل الاتجاهات ومن مختلف الطوابق، فكلما حاولنا الخروج من طابق معيّن، وجدنا أنفسنا على تماسّ بالشارع الخارجي مباشرة، ما أثار استغرابنا ليقفز إلى ذهني السؤال الذي لا يمكن تجاهله في كل مرّة: أين الأرض؟
كان ذلك السؤال الذي تستحضره الذاكرة بإلحاح كلما دخلت ذلك المركز كفيلا بتأجيج رغبة الإجابة عنه، وانتقلت عدوى السؤال إلى من كان معي. ولم يكن أمامنا سوى استجواب أهل "تلك الأرض" الذين أوضحوا لنا أن التصميم الهندسي وضع لكي يأخذك إلى حالةٍ كهذه من التوهان "البورخيسي" الذي لم يكن هذه المرّة متخيّلا كما في الحالة البورخيسية، إنما كان معاشا ومرئيا. كما أن الأمر لا يخلو من حيلة تجارية: أن تبقى في المركز أطول وقت ممكن، تتبضّع وتتفرّج وتتساءل وأنت ترى مختلف مخارج الطوابق تؤدّي بكلٍّ إلى الخارج: أين الأرض؟
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية