أيّ مسار فلسطيني بعد "فتوى لاهاي" الثانية؟
تتوالى هزائم إسرائيل الدبلوماسية، ويتلقى الاحتلال آخر صفعة قانونية من محكمة العدل الدولية، التي أصدرت، بعد 20 عاماً على فتواها الخاصّة بجدار الفصل العنصري، رأياً استشارياً ثانياً يستجيب لطلبٍ قدّمته الجمعية العامة بشأن "العواقب القانونية المُترتّبة على سياسات وممارسات دولة الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة عام 1967". بعد إنجازها أول دراسة شاملة لجوانب القضية كلّها، خلصت المحكمة إلى أنّ سياسات إسرائيل وممارساتها تنتهك قانون الاحتلال، وتهدف إلى إيجاد حقائقَ لا رجعة عنها في الأرض، وتعمل لتكريس ضمّ أجزاء من الأرض الفلسطينية المُحتلّة، وعرقلة حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير. وبناءً على ذلك، قضت المحكمة بوجوب وقف إسرائيل فوراً جميع الأنشطة الاستيطانية الجديدة، وإجلاء المستوطنين من الأراضي المُحتلّة بصورة غير قانونية، وتقديم تعويضات للفلسطينيين عن الأضرار التي لحقت بهم.
لقد نسفت الفتوى مزاعم إسرائيل التي غابت عن المداولات والمرافعات، ولم تشارك مشاركة كاملة في الإجراءات، إذ لم تُقدّم سوى بيان مكتوب من خمس صفحات، ومجموعة من المرفقات، حاولت من خلالها ادّعاء أنّها لا تحتلّ الأراضي الفلسطينية، مُبرّرة استمرار وجودها في هذه الأراضي بدوافع أمنية، وبدعوى أنّ هذه الأراضي مُتنازع على سيادتها. في سطرين، حسمت الفقرة 254 من رأي المحكمة الموضوع قانونياً بما لا يترك مجالاً للتأويل: "لا يحقّ لإسرائيل السيادة على أيّ جزء من الأرض الفلسطينية المُحتلّة أو ممارسة سلطاتها السيادية بسبب احتلالها. كما أنّ الشواغل الأمنية الإسرائيلية لا يمكن أن تُلغي مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوّة". كما كان مُتوقّعاً، رفضت الحكومة الإسرائيلية رأي المحكمة، وأكدّت أنّها لن تحرّك ساكناً من أجل تنفيذه. لكن محكمة لاهاي لم تتوقّف عند إسرائيل، بل أعادت الكُرَةَ إلى ملعب المجتمع الدولي، دولاً ومنظّمات على حدّ سواء؛ إذ خلصت إلى أنّ جميع الدول والمنظّمات الدولية مُلزَمة بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير الشرعي للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وأنّ الأمم المتّحدة، من خلال الجمعية العامّة ومجلس الأمن تحديداً، مُلزَمة بالنظر في الإجراءات اللازمة لوضع حدّ في أسرع وقت ممكن لهذا الاحتلال غير القانوني.
لقد وضعت المحكمة النقاط على الحروف، وأوصدت الباب القانوني في وجه إسرائيل وحلفائها. رغم لا إلزامية فتاواها قانونياً، لقد وفرّت للدول الأعضاء الأساس القانوني اللازم لأيّ إجراءات تراها مناسبة لمكافحة الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي والفصل العنصري، إذ رأت المحكمة أنّ إسرائيل تنتهك المادة الثالثة من "الاتفاقية الدولية للقضاء علي جميع أشكال التمييز العنصري"، التي تلزم الدول الأطراف الأعضاء فيها، بما فيها إسرائيل، بشجب العزل العنصري والفصل العنصري، وتتعهّد بمنع وحظر واستئصال هذه الممارسات كلّها في الأقاليم الخاضعة لولايتها. وبينما لم تصف فتوى محكمة العدل هذا الانتهاك بالأبارتهايد، أكدّ القاضي دير تلادي، من جنوب أفريقيا، في رأي مُستقلّ، أنّه "من الصعب ألّا نرى أنّ السياسات والتشريعات والممارسات الإسرائيلية تنطوي على تمييز واسع النطاق ضدّ الفلسطينيين في جميع جوانب الحياة تقريباً، مثلها مثل حالة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا".
على ماذا سيتفاوض الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني بعدما صوّت الكنيست على قرارٍ يرفض قيام دولة فلسطينية بدعوى أنّها ستشكل قاعدة إرهابية، وخطراً وجودياً على إسرائيل؟
تحرج فتوى لاهاي الثانية الدول العربية والإسلامية المُطبِّعة التي تربطها بدولة الاحتلال اللاشرعي اتفاقات ومعاهدات وصفقات مُخزية، وترمي بالمسؤولية على المجتمع الدولي بشكل عام، خاصّة منه الـ147 دولة التي تعترف بدولة فلسطين، والـ87 دولة التي طلبت، من خلال الجمعية العامة، إصدار هذه الفتوى، وأزيد من 50 دولة ترافعت في مدى أسبوع أمام المحكمة ذاتها ضدّ استمرار الاحتلال، بالإضافة إلى جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي. بعد توصّل هذه الأطراف كلّها بجواب المحكمة، أصبحت جميعها مطالَبةً بتحويل الفتوى إلى إجراءات ملموسة تعكس عدم اعترافها بالاحتلال أو مساعدته بشكل أو بآخر.
في تعليقه على فتوى المحكمة، صدر بيان عن المتحدّث باسم الأمم المتّحدة بأنّ الأمين العام أنطونيو غوتيريس سيرفع هذا الرأي الاستشاري إلى الجمعية العامة لاتخاذ الإجراءات اللازمة، مُؤكّداً ضرورة استئناف الأطراف للمسار السياسي المُتعثّر نحو حلّ الصراع وفقاً للقانون الدولي وقرارات الأمم المتّحدة، ومُشدّداً على حلّ الدولتين أساساً للتسوية السياسية. لقد ردّدت أطراف عربية ودولية عديدة الدعوة إلى التفاوض من أجل التوصّل إلى حلّ سياسي للنزاع، وكان جديدها أخيراً، من العاهل المغربي محمد السادس، في خطابه بمناسبة الذكرى الـ25 لتولّيه الحكم. دعا إلى اعتماد المفاوضات لإحياء عملية السلام بين الطرفَين الفلسطيني والإسرائيلي، في إطار حلّ الدولتين. وتطرح هذه الرؤية أكثر من سؤال بشّأن مدى واقعية الحلّ السياسي الذي لم تؤمن به إسرائيل ورعاتها يوماً، واتّخذوه ذريعةً وخديعةً لكسب مزيد من الوقت لتصفية القضية، عبر مخطط ضمّ الأراضي، والاستيطان، والمصادرة، والتهجير القسري. ثمّ على ماذا سيتفاوض الطرفان بعدما صوّت الكنيست الإسرائيلي على قرارٍ يرفض قيام دولة فلسطينية بدعوى أنّها ستشكل قاعدة إرهابية، وخطراً وجودياً على إسرائيل، التي يرفض قادتها حلّ "الدولة الواحدة" أيضاً؟
لم يعد هناك خيار سوى النضال ضد الاستعمار لتقرير المصير، بعدما وضعت فتوى لاهاي الثانية القضية الفلسطينية في إطارها القانوني الطبيعي
من الواضح أنّ استمرار الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني منذ النكبة لم يعد يترك مجالاً للحلّ السياسي، ولم يعد هناك من خيار سوى مسار النضال ضدّ الاستعمار بناءً على حقّ تقرير المصير، خاصّة وقد وضعت فتوى لاهاي الثانية القضية الفلسطينية مُجدّداً في إطارها القانوني الطبيعي الذي حادت عنه منذ اتفاقية أوسلو (1993). قد يرى البعض أنّ هذا المسار غير مُجدٍ في ظلّ شبه غياب القانون الدولي، وهيمنة صهيونية في واشنطن ولندن وبرلين، وخذلان جلّ الدول العربية والإسلامية، والانقسام الفلسطيني رغم "اتفاق بكين". تصوّر كهذا لا يَأخذ بالاعتبار أنّ النظام العالمي يشهد أيضاً اضطرابات وتحوّلات، وأنّ الهيمنة الغربية في تراجع جرّاء تصدّعات العولمة وصعود "الجنوب العالمي" أو عودته، وأنّ ازدياد الدعوات إلى عالم مُتعدّد الأقطاب ترافقه مطالب باحترام سيادة القانون الدولي، ومنظومة حقوق الإنسان، ويتجلّى هذا التغيّر في اتساع حركة التضامن مع القضية الفلسطينية حتّى كادت تشمل شعوب العالم كلّهم. الظرفية الدولية، على سوئها، لا تدعو إلى الاستسلام، خاصّة وقد فتحت فتوى المحكمة على إسرائيل باب جهنم بتأكيدها للمرّة الأولى ممارسة الاحتلال الفصل العنصري.
وبمّا أنّه لا مجال للتعويل على مجلس الأمن، فإنّ الجمعية العامة مطالبة اليوم بلعب الدور ذاته الذي اضطلعت به في تصفية الاستعمار، وفي حملة مناهضة نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا؛ حملة طويلة بدأت في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول 1950 باعتمادها القرار 395، الذي أعلن أنّ الفصل العنصري في جنوب أفريقيا تمييز عنصري، حملة استمرّت أربعة عقود اعتُمِدت خلالها قرارات وأُسِّست آليات لعزل النظام دولياً، وإضعاف موقف داعميه، فحثت على فرض عقوبات نفطية في عام 1963، وعلى تعليق التبادلات الثقافية والتعليمية والرياضية في 1968، حتّى تكلّلت جهودها بقرار تعليقها مشاركة جنوب أفريقيا في أعمال الجمعية العامة في عام 1974، على الرغم من الدعم البريطاني والأميركي لنظام الأبارتهايد في مجلس الأمن. وحتّى لا تُتهم الجمعية ذاتها بالكيل بمكيالين، عليها أن تُكشّر عن أنيابها، وتعتمد قرارات تدعو إلى وقف تسليح إسرائيل، وفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية عليها، وتعليق مشاركتها في أعمال الجمعية العامة، لتتحوّل دولة الاحتلال والأبارتهايد فعلياً دولةً منبوذةً دولياً، ما يُجبرها على الركوع لقوانين وقواعد العلاقات الدولية.