عن عالم ما بعد أميركا

19 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

في مقابلة له مع بودكاست "All In"، الذي يستضيف كبار المستثمرين في التكنولوجيا، قال الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، إنّ الدول تتخلّى عن الدولار الأميركي "مثل الذباب"، وإذا فقد الدولار هيمنته على التجارة العالمية سيكون هذا بمثابة "خسارة حرب". وعلى عكس منافسته الديمقراطية، كامالا هاريس، أدرج ترامب موضوع الدولار في حملته الانتخابية، مُردّداً أنّه إن عاد إلى البيت الأبيض فسيفعل ما بوسعه للحفاظ عليه عملةً احتياطيةً في العالم، وسيفرض تعريفات جمركية بنسبة 100% على الدول التي تتخلّى عن الدولار في معاملاتها التجارية. وضع المُرشّح الملياردير أصبعه على معضلة كبرى تواجهها أميركا اليوم؛ مستقبل الدولار، لكنّ الحلّ الذي يقترحه لا يأخذ بعين الاعتبار أنّ بلاده لم تعد الخيار الوحيد والأفضل في العالم، وأنّ التعريفات التعجيزية ستدفع الدول إلى أحضان الصين والهند وغيرها من الدول التي تنافس العمّ سام، بل تحارب ديكتاتورية الدولار.

لم يعد على خبراء علم الاقتصاد والسياسة والتاريخ حصراً الإقرار بأنّ العالم يعيش بداية انهيار النظام الدولي الليبرالي، الذي سمح لأميركا بأن تهيمن اقتصادياً وعسكرياً وأيديولوجياً على بقية العالم ما يناهز قرناً من الزمن. لكن هذا التغيير يبدو أنه قد فات ترامب، مثلما فات الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي تسبّبت رؤيته المتغطرسة لأميركا في إدخال بلاده وحلفائها الأوروبيين حرباً بالوكالة ضدّ روسيا في أوكرانيا، بغية تحقيق أحد أولى أهداف حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي لخّصها أمينه العام الأول، اللورد إسماي، بقوله: "ضرورة إبقاء الروس خارجاً، والأميركيين داخلاً، وألمانيا في الأسفل".

لم يُخفِ بايدن ابتهاجه لاجتياح روسيا أوكرانيا، متخيلاً أنّ تحالف "ناتو" سيسحق روسيا عسكرياً، ويدمّر اقتصادها عبر حزمة عقوبات لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلاً، ويزعزع استقرارها بما يسمح بتفكيكها والسطو على مواردها وأسواقها، وإضعاف ألمانيا والصين في آن. لم ينتبه الرئيس العجوز إلى أنّ العالم في مطلع الألفية الثالثة لم يعد شبيهاً بما كان عليه في السبعينيّات والثمانينيّات، حين نجح دعم واشنطن أفغانستان في حربها ضدّ الاتحاد السوفيتيي في التسبّب بانهيار الأخير. لم يحسب حساباً لبروز مجموعة بريكس كتلةً آسيويةً تقودها الصين وتقف الدول على بابها، رغبة في الانضمام إليها لخوض حرب ضدّ السيطرة الأميركية، عبر بناء نُظم اقتصادية وسياسية وعسكرية مُتحرّرة من التبعية لواشنطن.

أبانت موسكو جاهزيةً ملحوظةً لامتصاص عقوبات اعتادت مجابهتها منذ فُرِضت عليها بعد اجتياحها جزيرة القرم

على عكس ما توقّعه بايدن وحلفاؤه، لم تنهر روسيا بعد أزيد من سنتين ونصف السنة على اجتياحها أوكرانيا، التي تتقدّم يوماً بعد يوم نحو هزيمتها. أبانت موسكو جاهزيةً ملحوظةً لامتصاص عقوبات اعتادت مجابهتها منذ فُرِضت عليها بعد اجتياحها جزيرة القرم. اتّجهت بغازها ونفطها وسلعها نحو الأسواق الصينية والهندية، وغزت أسواقاً جديدة، من آسيا حتّى أفريقيا. في المقابل، انقلب السحر على الساحر، وتضرّرت أوروبا جرّاء ارتفاع أسعار الطاقة التي كانت تحصل عليها بأثمان زهيدة عبر أنابيب نورد ستريم، التي على الأرجح فجّرتها واشنطن في أكبر عملية تخريبية في الحرب الجارية. لكن يبدو أنّ واشنطن هي المتضرّر الأكبر من مغامرتها الأوكرانية لسوء تقدير إدارة بايدن ردَّة الفعل الدولية على توظيف واشنطن وحلفائها العقوبات والنظام المالي سلاحاً في الحرب ضدّ روسيا، ومشروع سطوهما على 300 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي الروسية، في خطوة غير محسوبة العواقب، شبّهها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسلوك "رعاة البقر في هوليوود".

أفقدت سياسات أميركا خلال هذه الحرب الثقة في واشنطن، وفي النظام الاقتصادي القائم على الدولار، ما دفع روسيا والصين والهند وإيران وعدة دول إلى البحث عن بدائلَ للعملة الخضراء. نشط التعامل التجاري بالعملات المحلّية والأصول الأخرى، ما دفع اليوان الصيني، والذهب والعملات الرقمية، إلى مستوياتٍ عاليةٍ وغير مسبوقة. تجلّى فقدان الثقة في واشنطن أيضاً في سحب العديد من الدول احتياطاتها من الذهب المودعة لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في نيويورك، الذي كان مؤتمناً على 13 ألف طنٍّ من الذهب في السبعينيّات، في مقابل حوالي ستّة آلاف طنٍّ فقط اليوم.

ولأنّ النظام الدولي رأسمالي بالأساس، فإنّ انهياره الاقتصادي يقاس بمُؤشّرات انهياره في مجالات التجارة والاستثمار والتمويل، وأحد أهم تلك المُؤشّرات يكمن في استمرار الانخفاض التدريجي في نصيب الدولار من الاحتياطيات الأجنبية المُخصّصة لدى البنوك المركزية والحكومات، من 70% في السبعينيّات إلى 58% حالياً. الوضع مُرشّح للتفاقم حسب العديد من الخبراء الاقتصاديين في ظلّ الإبهام الذي يحيط بمستقبل "البترودولار"، بعد انتهاء صلاحية الاتفاقية التي التزمت من خلالها السعودية في العام 1974 تسعير نفطها حصرياً بالدولار، واستثمار فائض عائداتها من النفط في سندات الخزانة الأميركية، في مقابل حصولها على دعم وحماية عسكرية. بفضل صفقة القرن العشرين، سمحت الرياض بتربّع الدولار على عرش العملات، وتزايد الطلب العالمي على شرائه، وتدفّق رأس المال الأجنبي على سندات الخزانة الأميركية في مدى خمسين عاماً.

نعيش مخاضَ ولادةِ عالمٍ متعدّد الأقطاب، تحكمه كتلٌ اقتصاديةٌ وسياسيةٌ مُتعدّدة، وسلسلة تحالفات مُعقدّة تحرّكها منافسات بين الشمال والجنوب والشرق والغرب

اليوم، تلزم كلّ من واشنطن والرياض الصمتَ حول مصير صفقة "البترودولار" بعد انتهاء صلاحيتها، لكنّ مُؤشّرات تكشف بداية انفلات السعودية من قبضة أميركا. بعد انضمامها لمنظمة شنغهاي للتعاون، وقّعت الرياض في نهاية العام الماضي مع بكين اتفاقاً يتيح مبادلة العملات المحلّية بقيمة 50 مليار يوان، ما يعادل سبعة مليارات دولار، وفي مطلع يونيو/ حزيران 2024، انضمّ البنك المركزي السعودي إلى مشروع "mBridge"، وهو تجربة نظام العملة الرقمية الذي تقوده الصين، وبدأ في عام 2021 من خلال تعاون بين البنوك المركزية في الصين وهونغ كونغ وتايلاند والإمارات، من شأنه التقليل من حجم تجارة النفط بالدولار. اليوم، تترقّب الأسواق العالمية تحرّكات السعودية، التي في حال قبولها بيع النفط في مقابل اليوان، وعملات أخرى، قد تعلن بذلك نهاية "البترودولار".

في انتظار أهم قرار سياسي سعودي، يسير العالم نحو نظام متعدّد الأقطاب للعملات مع تقلّص حصّة الولايات المتّحدة في الاقتصاد العالمي. بحسب عديد من خبراء الاقتصاد الأميركيين، بمن فيهم مايكل هادسون، وريتشارد وولف، ونورييل روبيني، فإنّ مشكلات الاقتصاد الأميركي آخذة في الازدياد، بما في ذلك مشكلة الديْن العام الأميركي الذي بلغ 34.5 تريليونا في عهد بايدن، مسجّلاً بذلك مستوىً قياسياً لا توجد خطّة واضحة لسداده، وبلغت مدفوعات فائدته السنوية أكثر من تريليون دولار. أمّا الاقتصاديون المتفائلون فيجادلون عموماً بأنه لا خوف على الاقتصاد الأميركي من دينه العام، ما دام الإنفاق الحكومي يساهم بنجاح في تعزيز النمو، لكنّ هذا النوع من المُحاجَجة لم يعد قائماً في ظلّ نسبة تضخم جدّ عالية، ونمو اقتصادي أميركي متواضع يراوح عند 2.5% هذه السنة، مقارنة بنسبة نمو تتجاوز 5% في الصين. بل يجادل بعض الخبراء بأنّه حتّى هذا النمو لا يبدو طبيعياً ولا يخضع لقواعد الإنتاج والتصدير، ذلك أنّ الاقتصاد الأميركي ينمو على حساب الأموال المُقترَضة داخل البلاد وخارجها. فكلّما يكون هناك حاجة إلى تغطية عجز الميزانية، تُصدِر وزارة الخزانة الأميركية سنداتٍ حكوميةً، وبما أنّ الطلب على هذه المستندات محدود داخلياً ودولياً، يقوم نظام الاحتياطي الفيدرالي بشراء بعضها من طريق طباعة بليونات الدولارات، وبذلك تكون الحكومة الأميركية مُقرِضة ومدينة لنفسها. وما يزيد الوضع خطورة هو أنّ قيمة هذه العملة لم تعد منذ بداية السبعينيّات مثبّتة بالذهب كباقي العملات، ولذلك أصبحت توصف بـأنّها "عملة ورقية مضطربة".

يتطلّب عالمُ ما بعد الهيمنة الأميركية إعادةَ تقييم السياسات والاستراتيجيات، من سلاسل التوريد إلى الذكاء الاصطناعي

وإذا أضفنا إلى هذه المعطيات المقلقة توتّرات المجتمع الأميركي، جراء الانقسامات الإثنية والاجتماعية الصارخة، والاستقطاب السياسي، وانتشار الأسلحة النارية، وشتّى مظاهر العنف، وتصاعد الجماعات المُتطرّفة، وعودة الحديث عن انفصال الولايات الديمقراطية عن نظيرتها الجمهورية، وخطر الحرب الأهلية، فإنّ الوضع العام في بلاد العمّ سام لم يعد يبعث على الثقّة الدولية التامّة بأميركا ونظامها، خاصّة في ضوء صعود قوى مجموعة بريكس.

وبما أنّ الاقتصاد يقود السياسة في النظام الليبرالي، الذي تنهار فيه الحرّيات والقيم، بما في ذلك حرّية التجارة العالمية، فمن الطبيعي أن ينعكس هذا التدهور على تراجع الهيمنة الجيوسياسية لأميركا وحلفائها. تحرص روسيا والصين اليوم على تأكيد نفوذهما في أوروبا الشرقية وبحر الصين الجنوبي وصولاً إلى الشرق الأوسط وأفريقيا. وبينما تظلّ أميركا رائدةً في مجال التكنولوجيا والقوّة العسكرية، تُسارع الصين والهند ودول أخرى من أجل اللحاق بها. بل حتّى القوّة الناعمة، التي روّجتها من خلال وسائل الإعلام وهوليوود والثقافة، لم تسلم من هذا الانهيار. أمّا الحديث عن القيم والحقوق والحرّيات، فقدْ فقَدَ أيّ معنى في ضوء رعاية واشنطن ولندن وبرلين الإبادة الجارية في غزّة.

العالم الذي نعيشه اليوم يُحضّر لمشهدٍ جيوسياسي جديد، عبثاً تحاول واشنطن حصره في منافسة ثنائية بين "ديكتاتورية الصين" و"ديمقراطية الغرب"؛ نعيش مخاضَ ولادةِ عالمٍ متعدّد الأقطاب، تحكمه كتلٌ اقتصاديةٌ وسياسيةٌ مُتعدّدة، وسلسلة تحالفات مُعقدّة تحرّكها منافسات بين الشمال والجنوب والشرق والغرب. يتطلّب هذا الواقع الجديد، عالمُ ما بعد الهيمنة الأميركية، الذي يتشكّل يوماً بعد يوم أمام أعيننا، إعادةَ تقييم السياسات والاستراتيجيات في جميع المجالات، من سلاسل التوريد إلى الذكاء الاصطناعي. وبينما تنشط مراكز الأبحاث والتفكير عبر أوروبا وأميركا في محاولة الإسهام في هذا التقييم، لا تحظى دراسة هذه المتغيّرات بالاهتمام الكافي في منطقتنا، وكأنّ الانتقال إلى هذا العالم الجديد لا يعنينا، بينما توجد المنطقة العربية بمشرقها ومغربها وخليجها، بمواردها وأسواقها وممرّاتها المائية في قلب هذه التجاذبات، وتوجد أيضاً أكثر من فرصة لتحويل تحدّيات هذه المتغيّرات فرصاً للتحرّر من الهيمنة الأميركية من دون الخضوع لهيمنة الصين.

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري