إبراهيم رئيسي وديكتاتورية الفضول
تحطُّم مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومقتله مع وزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان ومرافقيهما حدث ينتمي إلى عالم السياسة بالدرجة الأولى، ولكنه يعني أيضاً الإعلام والمشتغلين فيه. والإعلام المقصود هنا هو ذلك الخبري اليومي، اللاهث وراء الحدث، أو هكذا كان يفعل قديماً، ثم صار يركض خلف ما يرغب القارئ بقراءته والمشاهد بمشاهدته، بما أن "الزبون ملك" وهو الذي يفرض حدثه، حتى ولو كان ما يهمه شديد الفضائحية، سخيفاً تافهاً، أصفر بلون صحافة التابلويد. وبلغ الأمر في الإعلام المعاصر حدّ إدمان "الترند"، حتى أمسى أسير خوارزميات محرّكات البحث واتجاهات التفتيش عن الكلمات المرغوبة في سوق النميمة على السوشال ميديا. لكن في أحداث معينة، كمقتل رئيسي وعبد اللهيان والآخرين، تحضر العناصر الثلاثة معاً: الحدث وفضول القارئ والترند، أي اتجاهات البحث.
فجأة، أخذ المراسلون داخل قطاع غزّة استراحة لم تكن متوقعة من الرسائل المباشرة والتقارير والتنقل بين مجزرة وأخرى، عندما نقلت شاشات معظم التلفزيونات العربية أثيرها إلى إيران 16 ساعة متواصلة فصلت بين وصول أول خبر عن "هبوط صعب"، مثلما سمّاها الإعلام الإيراني، لمروحية الرئيس شمال غربي إيران بعد ظهر الأحد الماضي، والعثور على جثث ركابها صباح الاثنين بين حطام المروحية المصنوعة أميركيّاً منذ 1968، وقد انطلق محمد جواد ظريف من تلك المعلومة لكي يتهم أميركا بالمسؤولية عن الحادث، لأن العقوبات تمنع طهران من شراء قطع غيار للمروحية، من دون أن يخبرنا وزير الخارجية السابق لماذا لم تتزوّد جمهوريته بمروحيّات متطوّرة من حليفيها الصين وروسيا مثلاً وهي تقف على عتبة الدولة النووية؟ ما علينا، فهذا ليس موضوعنا. موضوعنا أن الحادث يبدو حتى اللحظة خالياً من أي نية جرمية. لا ذيول سياسية كبيرة له، مثلما أخبرنا علي خامنئي. قد تكون المعارِِضة الإيرانية مريم رجوين وحدها من يعتقد أن الحادثة "ضربة استراتيجية من العيار الثقيل" للنظام. إسرائيل تحلف بأن لا علاقة لها بالموضوع. حكّام أميركا تابعوا الخبر ببرودة، وربما استغربوا في سرّهم مواصلة اعتماد السلطات الإيرانية على مروحيات عجوزة كـ"بيل 212" التي كان يطلق عليها لقب "دبور الجحيم" نظراً إلى تطورها وقدراتها، لكن بمعايير ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وليس بعد نصف قرن من صناعتها. طيلة الساعات الـ16 المتواصلة، اختفت حرب الإبادة على غزّة عن السمع، مع أنه خلال هذه الساعات، سجّلت وزارة الصحة في القطاع عشر مجازر أسفرت عن قتل 106 أشخاص وإصابة 176 غيرهم ممن وصلوا إلى المستشفيات، أي أن هذه الحصيلة تستثني من لم يُعرف بقتلهم وجرحهم، ومن لم يُعثر على جثثهم.
إذاً ما هذا الذي دفع إدارات وسائل الإعلام، تحديداً الخدمات العربية لوكالات الأنباء العالمية والتلفزيونات العربية الرئيسية، إلى اعتبار أن حادث تحطم مروحية لرئيس بلد فاعل في المنطقة أهم من مواصلة تغطية مجزرة بوزن تلك الحاصلة في غزّة؟ يمكن أولاً إيراد عامل "التعب" صحافياً من خبر غزّة. ثانياً نوع الخبر الإيراني بحد ذاته، ببوليسيّته وتشويقه وإثارته وبقدرته الذاتية على توليد نظريات مؤامرة، بما أن مقدار الثقة بشفافية الرواية الرسمية الإيرانية في العادة لا تنافسه إلا مصداقية أنظمة كسورية ــ الأسد. ثالثاً الدعاية غير المقصودة التي قدّمها مسؤولون إيرانيون رفيعو المستوى للحادث، عبر رمي أخبار كاذبة من نوع أنهم أجروا اتصالات بنجاح مع أفراد كانوا على متن المروحية، ثم إن ركاب المروحية نجوا وهم في طريقهم براً إلى مدينة تبريز. رابعاً، وهو ما قد يكون الأهم، حشرية القراء والمشاهدين، واستعدادهم للجلوس 16 ساعة أمام الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، لمضغ المعلومات الشحيحة نفسها، أو الشائعات لا مشكلة، المهم أن نأخذ أي شيء يُقال لتشييره على السوشال ميديا، بما أن الخرافة تفيد بأن كل مواطن صحافي في زمن موت الصحافة وديكتاتورية الفضول.