إثيوبيا وسيناريو البلقنة
تقف إثيوبيا اليوم على مفترق طرق من الصراعات الإثنية والسياسية. فمنذ وصول آبي أحمد إلى رئاسة الحكومة عام 2018 هاجت وماجت الصراعات الإثنية بين القوميات الإثيوبية، وتحوّل بعضها إلى مطالب للاستقلال أو إمكانية التمتع بحكم شبه ذاتي، ولا سيما إقليم التيغراي الذي يواجه بطشاً عسكرياً من الجيش الإثيوبي الذي يقصف عاصمة الإقليم بلا هوادة. وفي موازاة ذلك، يرفض رئيس الحكومة جهود نزع فتيل الحرب بسلام، وإجراء مفاوضات مع قيادات التيغراي، مبرّراً ذلك بأنها حالة داخلية يمكن احتواؤها سريعاً، لكن الحسم ما زال مؤجلاً منذ اندلاع الحملة العسكرية مطلع شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، من دون أن تكسر إرادة قومية التيغراي التي ما زالت تصمد أمام أقوى جيش عسكري في القرن الأفريقي والثالث أفريقياً.
اللافت أن آبي أحمد قابل مطلب حق تقرير المصير الذي ترفعه قومية التيغراي بعسكرة المشهد السياسي، وبذرائع مختلفة، منها شنّ هجوم عسكري على القوات الفيدرالية، من مليشيات التيغراي، وإجراء انتخابات في الإقليم في 9 سبتمبر/ أيلول الماضي، لكن قيادة القومية ترفض تلك التهم جملة وتفصيلاً، وشاركتها هذا الموقف قوميات أخرى في غير إقليم، ترى أن حجج آبي أحمد للانتقام من قومية تيغراي ضعيفة جداً، ولا تستند إلى مبرّرات واقعية كفيلة بوضع البلاد في فوهة حرب عسكرية، وهذا ما سيكرّس عقيدة الثأر لدى القوميات من ظلم الإثنيات الأخرى، يوم تسيدها وتفردها بالحكم، وخصوصاً بين الأمهرا والتيغراي والأورومو.
آبي أحمد قابل مطلب حق تقرير المصير الذي ترفعه قومية التيغراي بعسكرة المشهد السياسي، وبذرائع مختلفة، منها شنّ هجوم عسكري على القوات الفيدرالية
الحرب المشتعلة في إثيوبيا لن تحسم القبضة العسكرية تداعياتها الأمنية والاستراتيجية، فإذا نجح آبي أحمد في كبح جماح التمرّد، فإن ثورة الرماد المحترق ستعاود نشاطها، آجلاً أو عاجلاً، فمطالب الاستقلال وتقرير المصير شأنٌ يخالج قيادات القوميات الإثيوبية، ما يستدعي مشهد التفكّك الذي حلّ بجسد يوغوسلافيا الاشتراكية التي تفكّكت نتيجة مطالب الإثنيات فيها بالاستقلال، فالحرب العسكرية ليست كفيلة بإقناع القوميات الإثيوبية على البقاء دولة موحدة في النظام الكونفيدرالي، ما لم تؤسّس قيادة إثيوبيا نظاماً ديمقراطياً يكفل حقوق القوميات، والدبلوماسية في التفاوض وحل النزاعات بدل اللجوء إلى الخيار العسكري المميت.
ما لا يختلف عليه اثنان، أن تأثيرات الحرب العسكرية التي دخلت أسبوعها الرابع ستترك آثاراً وخيمة على النظام الإثيوبي، فإطاحة القيادات والكفاءات الإثيوبية التي تنتمي إلى قومية تيغراي بين طرفة عين وانتباهتها قضمة عسيرة الهضم، والاعتقالات التي طاولت قياداتٍ عسكرية من الصف الأول، إلى جانب استمرار الحرب العسكرية، كلها ستضعف قدرات الجيش الإثيوبي مستقبلاً، وقد تؤجّج محاولات انقلاب سياسية أو عسكرية على النظام الإثيوبي، فالجيوش الأفريقية عادة بعد العودة من الحروب تتربص الأنظمة للانقضاض عليها، ما يجعل النظام الإثيوبي الحاكم في حرب تصفياتٍ داخلية من الجيش والرموز والقيادات الإثيوبية، لقطع الطريق أمام محاولات انقلاب قبل حدوثها.
إطاحة القيادات والكفاءات الإثيوبية التي تنتمي إلى قومية تيغراي بين طرفة عين وانتباهتها قضمة عسيرة الهضم
لا تحظى قيادات التيغراي بالشعبية الكافية لتبرير مواقفها وحربها السياسية والعسكرية على النظام الإثيوبي. وثمّة من يرى أنها اختلقت الأزمات السياسية مع النظام الحاكم، وافتعلت حرباً عسكرية طاحنة، وذلك كله من أجل الإفلات من العدالة الانتقالية أو المساءلة القانونية، جرّاء أفعالها لـ27 عاماً، وتحاول استعطاف صوت المجتمع الدولي للتفاوض مع آبي أحمد، ودخول شراكةٍ جديدة مع النظام، كفرض أمر الواقع، وهو ما ترفضه الحكومة الإثيوبية، وتصرّ على الحسم السريع للحملة العسكرية، في تأمين جيوب عاصمة الإقليم التي حوصرت وسقطت في يد الجيش أخيراً.
ولكن مع سقوط عاصمة التيغراي، ستكون خياراتهم ضئيلة جداً، وتقفز إلى الأذهان أسئلة ما بعد سقوط التيغراي في قبضة النظام العسكري، فهل سيكون آبي أحمد رحيماً بالنسبة إليهم، إلى درجة أنه سيعلن العفو العام عن قيادات الجبهة، ليبدأ مسيرة جديدة ملؤها التفاوض، بعد أن أثبت للعالم مدى جدّيته في حسم المسألة الإثيوبية بشكل سريع؟ وعلى الرغم من ذلك، أمام قيادات الجبهة خيارات صعبة، الاستسلام أو مواصلة القتال واللجوء إلى الأحراج العالية والمناطق الجبلية الوعرة، فإذا لم تتسم سياسة آبي أحمد بالحنكة والحكمة، فإن مستقبل الصراع بين الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي والحكومة الإثيوبية سيستمر، وستوظف قيادات الجبهة حرب الغوريلا لمواجهة الجيش والنظام الإثيوبي. لذلك، تبدو المفاوضات ما بعد الحرب الخيار الأوحد بالنسبة إلى الأطراف الإثيوبية، فسياسة "شعرة معاوية" هي الطريق الوحيد المفتوح لآبي أحمد، إذا خرج منتصراً من نفق هذه الحرب المشتعلة.
ثمّة من يرى أن قيادات التيغراي افتعلت حرباً عسكرية طاحنة، من أجل الإفلات من العدالة الانتقالية، أو المساءلة القانونية، جرّاء أفعالها لـ27 عاماً
أخيراً، انتصار الجيش الإثيوبي على مليشيات جبهة تيغراي، يكسب النظام دلالات سياسية ومكاسب ميدانية، ويعزّز أيضاً مدى قدرة الجيش على مواجهة أي مطالب أخرى مستقبلية لتفكيك البلاد، وتعطي زخماً عالمياً لآبي أحمد سياسياً مرناً وقائداً عسكرياً يواجه تحدّيات التفكك بالحسم العسكري السريع، حفاظاً على تماسك إثيوبيا ووحدتها وجغرافيتها الكونفيدرالية. لكن في المقابل، ستترك تداعيات تلك الحرب حقداً دفيناً مؤجّجاً بين القوميات والعرقيات الإثيوبية، ما لم يكن الوفاق السياسي والحوار حارس بوابة السيادة الإثيوبية. وحده الرصاص لا يمكن أن يُبقي القوميات الأخرى مكرهة في نسق اجتماعي موبوء بالتظلّم الاجتماعي والفقر والجوع.