إدوار الخرّاط في طائرة مخطوفة

ليست حوادث خطف الطائرات أخباراً متواترةً مألوفة، بل صارت الخطيرةُ الجدّيّةُ منها شحيحةً ونادرةً، وتكاد تختفي، والملحوظ أنها، منذ أزيد من عقدين، تطلّ، بين وقتٍ وآخر، أخباراً عن حالات "شبه اختطافٍ"، بمسدسٍ من ألعاب الأطفال مثلاً. وها هي أحدثُ الوقائع، ُينجزها مصريٌّ بحزامٍ ناسفٍ زائف، يتسلّح به، فيخطف طائرةً من سماء القاهرة إلى مطار لارنكا في قبرص. وهناك، يُسلينا بقصّة خلافه مع طليقته، فيما نحبس أنفاسنا، ونلاحق أي تفصيل بشأنه، وقد كان أستاذاً جامعياً في الطب البيطري، ثم أصبح صاحب سوابق في 16 قضية. 

لافتٌ أنَّ أحداث خطف الطائرات بقوة التهديد بالسلاح، وابتزاز الحكومات بحياة الركاب، واقعيةً أو متخيلةً، أغوت السينما (والمصرية منها) وصنّاعها بإنجاز أفلامٍ عنها، غير أنه لا مجازفة في الزّعم أن أياً من كتّاب القصة والرواية العرب لم يمتحن خيالَه، ولم يحاول بناء نص إبداعي، يذهب إلى خوف الإنسان ومشاعره القلقة، إذا ما وجد نفسَه مخطوفاً في طائرة. قد يعود الأمر إلى أن أحداً منهم لم يتعرّض لتجربةٍ مثيرةٍ مثل هذه، وإلى أن الأدب البوليسي في السرد العربي الحديث فقير، وربما مرذولٌ، وهو الذي يعرف في الغرب انتعاشاً مهولاً في الإنتاج والمقروئية. وفي البال أن أدباء وفنانين عرباً اشتهر خوفُهم من السفر بالطائرات. وإذا كان نجيب محفوظ أحد (نجوم) هؤلاء، وهو الذي لم يركب الطائرة إلى استوكهولم لتسلم جائزة نوبل، ففي أرشيفه أنه سافر جواً مرتين في حياته. أما طه حسين فلم يفعلها أبداً، وكانت أسفاره بحراً، ولمّا دعي إلى مؤتمرٍ في بيروت، أبلغ القائمين عليه أنه "لن يقطع الطريق معلّقاً بين السماء والأرض". وهناك غارسيا ماركيز الذي طاف قارّاتٍ في أسفارٍ كثيرة، غير أنه كان يُشهِر خوفه من ركوب الطائرة، بنوعٍ من الاعتداد بالذات، إذ يعترف بما لا يعترف به آخرون.

.. ولكن، حرمنا إدوار الخرّاط من نصٍّ روائي أو قصصي، لو كتبه، أرجّح أنه سيكون لافتاً، بعد أن عاش تجربةً شديدة الخطورة، في واحدةٍ من حوادث خطف الطائرات المثيرة. تحدّث عنها في مقابلاتٍ صحفية، وقال إنه "قد يجد فسحةً من الوقت لكتابتها"، لكنه، فيما أعلم، لم يبنِ على الواقعة نصاً يشحنه بما هو خبيرٌ به في إضاءة المشاعر والعواطف والانفعالات. موجز الحكاية الطويلة، أن الخرّاط كان في قاعة المؤتمر في فندقٍ في قبرص، لمّا قتل فلسطيني وعراقي يوسف السباعي في ردهة الفندق، في فبراير/ شباط 1978. احتجز الاثنان المؤتمرين، ثم أفرجوا عنهم، إلا عن أحد عشر شخصاً، كان منهم صاحبُنا، ثم طلبوا حافلةً تنقلهم، مع رهائنهم، إلى مطار لارنكا، على أن تكون طائرةٌ مهيأةً لهم. استُجيب لهما، ثم أقلعت الطائرة، وفي الجو طلبوا الهبوط في طرابلس، ورفض معمر القذافي، فاتجهوا إلى دمشق، ورفض حافظ الأسد هبوطها، ثم إلى عدن، ولم يكن مدرج المطار مهيئاً، فارتحلوا إلى جيبوتي، وهبطوا هناك، وكان الوقود في الطائرة لا يكفي إلا لدقيقة. وبعد مفاوضات عسيرةٍ، ساعد في (إدارتها!) إدوار الخرّاط، بطلبٍ من الخاطفيْن، بصفته مترجماً، عادت الطائرة إلى لارنكا. وهناك، بعث أنور السادات، في خطوةٍ حمقاء، قوةً عسكرية لتحرير الرهائن، اشتبكت مع الأمن القبرصي، وقتل خمسة عشر عسكرياً مصرياً. استسلم الخاطفان، ونجا الركاب المحتجزون.

التقط البريطاني، بن إينيس، صورةً مع خاطف الطائرة المصرية ذي الزنّار الناسف الزائف، مبتسماً، يوم الثلاثاء الماضي، والطائرة رابضةٌ في المطار. أما إدوار الخرّاط، فإن أحد الخاطفيْن كان يحمل قنبلةً، وجلس إلى جواره في الطائرة، وهي تبحث عن أيّ هبوط، ثم نام، نحو دقيقيتن، مرّتا "كأنهما أبدٌ من الزمن"، وكان من الممكن أن تسقط القنبلة من يده في أي لحظة، لولا أن زميله استفاقه بهدوء، وبصوتٍ خفيض. يقول الخرّاط "كانت معجزة". ونقول، هنا، إنها كانت خسارةً أن تلك اللحظات، المثيرة العصيبة، لم يكتبها الروائيّ البديع والكبير أدباً وسرداً وفناً.