إسرائيل ملاذاً آمناً
كان حكماء الديكتاتوريات العربية بعد حروب 1948 و1967 و1973 ينصحون الحاكم بوضع فلسطين على لسانه لكي يفعل بعدها ما يشاء بشعبه أو بالفلسطينيين المقيمين في بلده. حصل ذلك في بعث سورية والعراق واشتراكيّتهما وفي مصر الناصرية ثم عند إسلاميي السودان مروراً بليبيا قبل مرحلة ناصرية قذّافيّها وبعدها. كانت كلمة فلسطين عند هؤلاء حائط صدّ منيع لإحباط أي تحوّل نحو الديمقراطية ودولة المؤسسات والقضاء المستقل وأي توسيع لهامش الحرية ولتحسين شروط العيش وتداول السلطة والأفكار وتوزيع عادل للثروة. كانت المتاجرة باسم فلسطين وتحريرها ملاذاً آمناً، حجة لإبقاء الأوضاع على ما هي عليه داخل البلدان القريبة من فلسطين جغرافياً والبعيدة عنها. ثم حصل التحوّل الكبير منذ "كامب ديفيد" وبعدها انهيار الاتحاد السوفييتي وانكفاء "معسكر السلام" داخل المجتمع الإسرائيلي والصعود الهائل ليمين متطرّف لا تندر مقارنته بالنازية من مثقفين ومناضلين يهود معادين للصهيونية. ولأن الحكمة عند الطغاة غير مبدئية ولا أخلاقية، فقد سهل استبدال فلسطين بإسرائيل ليصبح التقارب معها هو الملاذ الآمن لديمومة السلطة التي صارت خشيتها من شعبها أقلّ، ومن الخارج أكبر.
وضْع إسرائيل على اللسان، أي الانضمام إلى اتفاقات أبراهام لتطبيع العلاقات معها أو الإعراب عن نية الانضمام، من أجل أن يفعل الحاكم ما يشاء بعدها، اتخذ في السنوات الثلاث الماضية أشكالاً عديدة. لديك المغالون في إظهار الود والحب أو ادعائه تجاه كل ما يمتّ إلى إسرائيل بصلة بشكل يكاد يجعل الإسرائيليين أنفسهم يطالبون الطرف العربي المقابل بالإقلاع عن المبالغة. ثم تصادف من يربط توقيعه على اتفاق مع تل أبيب بتطوير العلاقة مع واشنطن. وبينهما مَن يسأل عن إمكانية حلّ أزمات بلده الاقتصادية وشطب ديونها في حال انضم إلى ركب الموقعين، ومن يشترط نيل دعم عسكري إسرائيلي ليحسم صراعه على السلطة قبل التقاط الصورة التذكارية في البيت الأبيض. وبين الفئات المختلفة، يظهر من يعتبر أن تطبيعه العلاقات مع إسرائيل، وتوسيع التعاون على الصعد كافة، هو ثمن لاعتراف تل أبيب بسيادته على بقعة جغرافية متنازع عليها. أمكن العثور على تجسيد للحالات المذكورة أعلاه في أعضاء نادي اتفاقات أبراهام ومرشحين للانضمام إليه من بلدان خليجية وأفريقية. لكن الحالة الليبية التي كان عنوانها في الأمس خليفة حفتر وأبناؤه ولقاءاتهم مع مسؤولين إسرائيليين، وصار رمزها اليوم مسؤولو حكومة طرابلس منذ كُشف عن لقاء وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش مع نظيرها الإسرائيلي إيلي كوهين ساعتين يوم الخميس الماضي في روما، تستحقّ أن يُفرد لها فصل خاص من كتاب اتفاقيات أبراهام.
مع كل المعلومات التي كُشفت عن خلفيات لقاء روما وتفاصيله، ما عاد عادلاً حصر الحديث بالوزيرة المُقالة. تلتقي التسريبات الإسرائيلية والليبية والأميركية عند نبع واحد: رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيية هو الذي طلب من الوزيرة لقاء كوهين بموجب تفاهمه على ذلك مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز، مطلع العام الحالي. التضحية بالوزيرة وإلقاء عبارات إنشائية عن مدى حبّه لفلسطين من مقر السفارة الفلسطينية في طرابلس، لا يفعل إلا إكمال الفولكلور الخاص بحكمة "وضع فلسطين على اللسان"، بعدما كاد يصيب عصفوريْن بحجر واحد: وضْع كل من فلسطين وإسرائيل معاً على لسانه.
القصة الليبية الجديدة مليئة بالحكم الانتهازية: تفشل في إنشاء جيش وطني أو على الأقل في ضبط المليشيات، فتلجأ إلى الاجتماع بمسؤولين إسرائيليين لردّ غضب أميركا. تعجز عن توحيد مؤسّسات البلد وأقاليمه ويزاحمك كثر على السلطة في الشرق والغرب والجنوب، فتحاول التعويض برمي حجر في بركة إنشاء علاقات مع إسرائيل لكي ترصد حجم الغضب وإن كان قابلاً للاحتواء أو لا. الفساد يضرب مستويات قياسية، إذاً فعلى الوثبة باتجاه أميركا عبر إسرائيل أن تكون كبيرة.
يزداد الضغط العالمي على إسرائيل ويتضاعف عدد الساعين إلى عزلها وثنيها عن مواصلة ارتكاب جرائمها، فيتطوّع عرب كثر لمد يد العون إليها. لكن لا داعي للقلق، غداً يقسمون أن كل ما يفعلونه هو لمصلحة القضية الفلسطينية.