إسرائيل وإيران .. القتل بألف طعنة مقابل قطع الرأس بالقطنة
في أحد الأفلام الوثائقية التي توثّق تاريخ العلاقة بين إسرائيل وإيران الشاهنشاهية، يقول آخر ضابط من ضباط الموساد الذين غادروا طهران بعد سقوط الشاه وانتصار الثورة عام 1979: "نعرف إيران جيداً، ولدينا إدراك دقيق لآليات عملها وعقلية صانع القرار في الجمهورية الإسلامية، الخبرة والتجربة تقولان لنا إنه إذا ما رأينا إيران تقطُر دماً وتنزف، فيجب علينا أن لا نستعجل إعلان الانتصار وتحضير طاولات الاحتفال".
تبدو إسرائيل الراهنة كأنها تتبنّى سياسة مواجهة مع إيران مستمدّة من التجربة الإيرانية نفسها، فهي تعتمد عقيدة استهداف رأس الأخطبوط عبر استراتيجية "القتل بألف طعنة"، وأحد أوجه هذه الاستراتيجية أنها تعتمد مبدأ النفَس الطويل، وترجّح تسجيل النقاط على أسلوب الضربة القاضية، أو على الأقل رفع مستوى الإرهاق اليومي لدى الخصم عبر ضرباتٍ متتابعة في مفاصل قوته، تمهيداً لتسديد ضربة قاضية في وقتٍ ما. القليل من المقارنة هنا، وفي عناوينها العريضة، يُظهر أن هذه الاستراتيجية الاسرائيلية تتقاطع، بشكل لافت، مع جزء أصيل من عقيدةٍ لطالما تبنّتها طهران في مواجهاتها طويلة الأمد، قدرة تحمّل عالية ونفَس طويل، استبعاد مبدأ الضربة القاضية، والسعي لتحقيق المطلوب عبر تسجيل النقاط وتسديد ضربات تراكمية، وكأنها تمارس تجسيداً واقعياً للمثل الفارسي "با پنبه سر بريدن" (قطع الرأس باستخدام القطنة).
يقول قلق إسرائيل المتزايد إنه لا مجال أمامها سوى التحرّك في مساحات المحظور، وهي ترى ولادة إيران نووية عبر عملية قيصرية مُجهدة ومكلفة. في المقابل، تقول خبرة إيران إنه لا مجال لديها إلا أن تتحمّل ألم المخاض واحتواء ردود فعل المحيط والحفاظ على سقف ردعٍ لا يفقدها عنصر المبادرة، ولا يؤدي إلى حرب مفتوحة، ويسمح بولادة الجنين النووي بأقل الخسائر، هذا فضلاً عن كثير من الدبلوماسية في مساحات الإقليم.
تعتمد إسرائيل في حربها مع إيران مبدأ رفع مستوى الإرهاق اليومي لدى الخصم عبر ضرباتٍ متتابعةٍ في مفاصل قوته، تمهيداً لتسديد ضربة قاضية في وقتٍ ما
هو أمنٌ قوميٌّ إسرائيليٌّ مقابل أمن قومي إيراني مضادّ، وبالاتجاه المعاكس، لكن بمنطقين مختلفين. فإذا كانت طهران تدرك أن العالم ذاهبٌ إلى تغيير جوهري، وربما قهري، وأن الأدبيات التي حكمت المنظومتين، الإقليمية والدولية، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة انتهت عملياً، فإن إسرائيل تعرف أن عالماً جديداً، وفق المعطيات الحالية، سيفرز تموضعاً إيرانياً جديداً أفضل مما هو عليه الآن، إذاً لا بد من عملياتٍ جراحيةٍ عاجلة، بحيث يصبح هذا التموضع مرفوضاً، أو على الأقل صعباً ومكلفاً.
تضرب إسرائيل بشكلٍ لم تفعله من قبل، تستهدف رأس الأخطبوط كما تقول، تأخذ قراراً جريئاً بإراقة دماء العسكر والخبراء والعلماء داخل إيران، تهاجم بأساليب جديدة قواعد عسكرية مهمة، في إشارة إلى أن بإمكانها الوصول إلى الأماكن المحرّمة، تسعى لضرب عناصر القوة في المشروع النووي ونظيره الصاروخي، عبر فتح باب الاغتيالات لشلّ البنى التحتية لمقوّمات القوة الإيرانية. تفعل إسرائيل ذلك، وهي على شبه قناعة بأن جميع هذه التحرّكات لا تكفي لتحييد إيران وأوراق قوتها وإعادتها إلى زمن ما قبل النووي والنفوذ الاقليمي، بل يصف الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي هذه السياسة بأنها فوضى قوّة في ساحة المعلن، قد تكون مفيدة إعلامياً ونفسياً، وتسبّب ضرراً جزئياً وإحراجاً كثيراً لطهران، لكنها لن تضعف إيران استراتيجياً، والأهم أنها قد تدفع الإيرانيين إلى تبنّي خياراتٍ غير متوقعة تتخذ أشكالاً غير تقليدية.
تعمل إسرائيل لضرب عناصر القوة في المشروع النووي ونظيره الصاروخي، عبر فتح باب الاغتيالات لشلّ البنى التحتية لمقوّمات القوة الإيرانية
بعكس إسرائيل التي تعطي انطباعاً بأنها حسمت خيارها، تبدو حسابات طهران أكثر تعقيداً، وهي تقف عند مفترق طرق حاسم، على يمينها تزدحم طاولات السياسة الإقليمية، حيث يعيد الجميع التموضع، وعلى يسارها دهاليز التفاوض والسعي لرفع عقوبات قاسية ومرهقة، ومن خلفها إرث نووي وصاروخي ونفوذ إقليمي إن فرّطت به، أو تراخت في حمايته، ستكون كمن اختار الذهاب إلى أهم معاركه التاريخية عارياً. وحين تنظر أمامها يتعقّد المشهد عبر تداخل الإقليمي بالدولي. يفرض هذا التشابك على إيران، وبالضرورة أن تكون أكثر هدوءاً وأقلّ توتراً، وهي تسأل: ما العمل؟ وما خيارات العسكر والسياسة؟ وكيف ومتى وأين؟
هل تضع كل الحسابات جانباً، وتتخذ قراراً بدخول حلبة الملاكمة علانية مع إسرائيل، والبدء بتسديد اللكمات الأمنية والاستخباراتية في مساحات المنطقة والعالم؟ تبدو تلك فكرةً عابرة وغير كافية، وربما ساذجة في مساحات عقلية وطريقة عمل صانع القرار الإيراني. ماذا لو قرّرت تحمّل نزف كثير من الدماء، وهي تعتبر المرحلة ما فوق استراتيجية، يصبح فيها الأخطبوط نووياً بالمعنى العملي؟ التقدير هنا أن ذلك فعلٌ لن يكون بهذه السهولة، ولن يولد هكذا دفعة واحدة، وفي مساحات التحدّي، فإيران دولة "عتبة نووية" سيكون الخيار الذي سيضع بعضهم، خصوصاً إسرائيل، أمام خيارين: إعلان الحرب بشكل كامل خارج الساحات الرمادية والضرب في العتمة، أو تمهيد أرضيات التعايش مع فكرة "إيران نووية"، وهذا إنْ حدث، وفي الحالتين، سينتهي إلى شرق أوسط آخر غير الذي نعرفه.
تعلن إسرائيل تبنّيها استراتيجية ضرب رأس الأخطبوط مباشرةً، ولكن هل حصّنت رأسها؟
قد يكون الأقرب إلى ما يفكر فيه الإيرانيون، القيام بذلك كله معاً، لكن بمستويات مختلفة. جزء من إيران سيتوغل أكثر في حلبة الملاكمة مع إسرائيل، ويمارس لعبة الدم في الخفاء بهدف صياغة معادلة الردع بمحدّداتها الجديدة، وجزء آخر منها سيقرّر تحمّل النزف المعلن في الطريق الطويل إلى العتبة النووية، وهذا مهم في صناعة السردية الإيرانية الشعبية والتاريخية في مجالها النووي، وجزء ثالث سيبقى متمسّكاً بالتفاوض والدبلوماسية، ويتنقل بين العواصم الإقليمية والدولية، بهدف تفعيل الاتفاق النووي، ليخفّف آلام الاقتصاد، ويخرج البرنامج النووي من عين المواجهة نظرياً على الأقل، بيد أن الجزء الأهم هو ذلك الذي يستعدّ لحربٍ مفتوحة إن وقعت، فإنها ستعبر بالمنطقة نحو مفاهيم مواجهة جديدة أخطر ما فيها أنه يجري ترسيم حدودها بالدم.
يقول الضابط في الموساد الإسرائيلي ذاته الذي بدأ به المقال، في نهاية الفيلم الوثائقي: "كنّا على خطأ، حين اعتقدنا أن تحييد الجمهورية الإسلامية سيتحقق عبر الاغتيالات والعمليات الأمنية في المحيط، كان علينا استهداف الرأس، لكن قبل ذلك لا بد من العمل بشكل حثيث لتحصين رأس إسرائيل أمام إيران، وهذا فعلٌ لا يبدو سهلاً ما لم يكن أشبه بالمستحيل".
ما تفعله إسرائيل اليوم أنها تعلن تبنّيها استراتيجية ضرب رأس الأخطبوط مباشرةً، لكن السؤال الأهم، وانطلاقاً من كلام ضابط الموساد: هل حصّنت إسرائيل رأسها قبل القيام بذلك؟