إيران والسعودية .. رقصة التانغو مقابل العزف المنفرد
في أقصى نقطة من حدود إيران في المياه الخليجية مع السعودية ستجد نفسك تقف على جزيرة تحمل اسم "فارسي". وإذا نظرت مباشرة سترى قبالتها جزيرة سعودية تحمل اسم "العربية"، وبين فارسي الإيرانية والعربية السعودية سيسجل التاريخ في هذه البقعة صفحاتٍ شتى من العزف المنفرد على أوتار النزاع الإقليمي، وسيسجل أيضاً بدايات التلاقي وأولى رقصات التانغو الاستثنائية بين طهران والرياض.
هاتان الجزيرتان صارتا الحدود الرسمية بين البلدين عام 1968، حين وصل وزير النفط السعودي آنذاك، أحمد زكي اليماني، إلى إيران الشاهنشاهية، ليوقع في طهران أول اتفاقية ترسيم حدود رسمية. نجحت الاتفاقية في فك الاشتباك الحدودي، لكن الأهمية تجسّدت في قرار البلدين تجميد العزف المنفرد، وتمهيد المسرح لرقصة تانغو استمرت عشر سنوات. ثم جرّت الرقصة تلك وراءها مصالح متبادلة كثيرة، واحتواء التهديدات المشتركة، ومواجهة النظام البعثي في العراق، فضلاً عن التصدّي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والمد الناصري الذي كان قد انطلق من مصر، بالإضافة إلى تناغم ثنائي لصدّ توسّع نفوذ الاتحاد السوفييتي. حصد كلا البلدين تحوّلاً استراتيجياً، حين باتت السعودية وإيران الشاهنشاهية ركيزتين أساسيتين في أمن المنطقة من وجهة نظر المعسكر الغربي، وبالتحديد في عقيدة الولايات المتحدة أيام الحرب الباردة.
تغيّر كل شيء دفعة واحدة عام 1979، حين انتصرت الثورة في إيران وشكلت هوية القادم الجديد، التي تمثلت في الجمهورية الإسلامية حدثاً تاريخياً فارقاً، أرخى بظلاله على علاقات الرياض بطهران، عبر توقف عنيف لرقصة التانغو، ونسف المسرح كلياً، والعودة مجدّداً إلى العزف المنفرد في أقسى صوره.
السعودية ترى في وجود القوات الأميركية وقواعدها ركيزة كبرى من ركائز أمن المنطقة الخليجية، بينما صنّفت إيران ذلك تهديداً مباشراً لأمنها القومي
كان عزفاً دموياً في مساحات المنطقة سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً، وضع البلدين على طرفي نقيض. دعمت السعودية بشكلٍ معلن العراق في الحرب مع النظام الوليد في إيران، والمتهم بأنه يريد تصدير الثورة إلى خارج الحدود. وجرّت حرب ناقلات النفط في المياه الخليجية حضوراً حقيقياً للقوات الأميركية في المنطقة، وبين مباركة الرياض هذا الحضور ورفض طهران له استمر الاستنزاف الحاد عقداً كلّف البلدين الكثير، في مشهدٍ بدا وكأن الجميع نسي رقصة التانغو التي حققت للبلدين الكثير.
مرّة أخرى، عادت الأحداث لتفرض على السعودية وإيران ما بعد الثورة العودة إلى رقصة تانغو جديدة. كان بطل القصة هذه المرّة الرئيس العراقي صدام حسين الذي قرّر غزو الكويت عام 1990. أفرز الغزو علاقات سعودية إيرانية جديدة، تحسّنت بشكل متسارع طوال عقد التسعينيات. أنهت طهران مقاطعة الحج، تبادلت العاصمتان زيارات لمسؤولين من الوزن الثقيل، ليتوج ذلك بزيارة تاريخية للرئيس الإيراني آنذاك، هاشمي رفسنجاني، الرياض، كذلك سمح مرض الملك فهد بن عبد العزيز بصعود نجم الأمير عبد الله بن عبد العزيز الذي سعى للتمايز في سياسات بلاده الخارجية، وفي مقدمتها العلاقة مع إيران، كذلك جاءت الانتخابات في إيران بمحمد خاتمي رئيساً، وأدّت كل هذه العوامل إلى نجاح رقصة التانغو الجديدة، عبر توقيع اتفاقية أمنية بين البلدين عام 2001 شكّلت انعطافة مهمة في تاريخ العلاقة الثنائية.
يومها، كتب الإيرانيون والسعوديون الكثير في مدح البراغماتية المنضبطة كمفهوم يعوّم المصلحة المشتركة، من دون التخلي عن التباين في بعض الرؤى الخاصة بالأمنين، الإقليمي والخليجي، فالسعودية بقيت ترى في وجود القوات الأميركية وقواعدها ركيزة كبرى من ركائز أمن المنطقة الخليجية، بينما صنّفت إيران ذلك تهديداً مباشراً لأمنها القومي. وبقيت الثقة بينهما غائبة نسبياً، وخصوصاً أن المسار الثالث القائم على أمن إقليمي خليجي أوسع بحضور طهران بقي مرفوضاً أميركياً، ولا يزال مرفوضاً.
شاءت الأقدار لثلاثة ملفات أن تشتعل تباعا لتكون كفيلة بإنهاء رقصة التانغو بين إيران والسعودية، أولها أحداث "11سبتمبر" (2001)، وإطلاق الرئيس الأميركي عملية "الحرية الدائمة" عبر احتلال أفغانستان وإسقاط حكم حركة طالبان، فضلاً عن احتلال العراق وإسقاط حكم صدّام حسين. وفي الملف الثاني، شكّل صعود نجم البرنامج النووي الإيراني، بكل تعقيداته، إلى دخول لاعب جديد لم يكن في الحسبان، وأخيراً موجة الربيع العربي التي ضربت، بشكل عنيف، مراكز توازن القوى في مساحات الشرق الأوسط. من جديد، دخل البلدان في عزفٍ منفردٍ قاسٍ أنهى رقصة التانغو، ونقل المعادلة من معركة عضّ أصابع تحت سقف البراغماتية إلى مواجهة كسر عظم من دون وجودٍ لأي أسقف.
الرياض تعتبر أميركا حليفاً، بينما ترى فيها طهران عدواً، فأي رقصة تانغو جديدة قد نرى؟
عقد كامل شهد مغادرة جورج دبليو بوش البيت الأبيض، وتراجع مفهوم قدرة القوة العسكرية الأميركية على رسم خرائط جديدة في الشرق الأوسط. إيرانياً، كان على الإقليم والعالم أن يتعاملا مع طهران جديدة، تمتلك برنامجاً نووياً متكاملاً ومتقدّماً، فضلاً عن نفوذ إقليمي واسع، وازدياد مطّرد لمن يعتقدون أن العقوبات فشلت في تحييد إيران وعزلها. جاء هذا السياق برئيس أميركي جديد، هو باراك أوباما الذي اتخذ قراراً نادراً بالتفاوض المباشر مع إيران، وإمكانية الاعتراف بها لاعباً إقليمياً مهماً. شعرت السعودية برعب حقيقي وخطر كبير، وهي ترى واشنطن تغازل طهران، وتقدّم لها تنازلات تدريجية. في هذه المساحة تحديداً، سقطت المعادلة التاريخية التي حكمت العلاقة بين طهران والرياض، والتي تمثلت بالتناوب بين تعاون حذر على وقع رقصات التانغو واشتباكٍ مرّ على إيقاعات العزف المنفرد.
نقف اليوم على أعتاب رقصة تانغو جديدة بين الرياض وطهران بدأ فصلها الأول في بغداد، لكنها خجولة وبطيئة، فقواعد المسرح تغيرت كثيراً، ومحدّدات الإيقاع تبدّلت بشكلٍ لم يعد يسمح برقصة ثنائية خاطفة يصفّق لها الجميع. إذا كان أجمل ما في رقصة التانغو هو التناغم السلس بين شريكين، فإن السؤال المهم ليس بشأن مكونات نجاح هذه الرقصة الجديدة، بل هو بشأن ضمانات عدم العودة إلى العزف المنفرد، وهذا يشكل معطىً صعباً، لكون توجهات واشنطن وسياساتها لا تزال أحد أهم محدّدات العلاقة بين إيران الجمهورية الإسلامية والمملكة العربية السعودية، فالرياض تعتبر أميركا حليفاً، بينما ترى فيها طهران عدواً، فأي رقصة تانغو جديدة قد نرى، هذا في معزلٍ عن ماهية الجمهور وحجم حضوره.