إسرائيل ونقل الحرب إلى الجهة الأخرى
دائماً ما يتحدّث الإسرائيليون عن "نقل الحرب إلى الجهة الأخرى". وفي هذه العبارة ترجمة جوهرية لفكر الجنرال الصيني سون تزو، في كتابه "فن الحرب"، الذي يدعو فيه إلى نقل الجبهة إلى أراضي العدو، من أجل كسبها. يحاول الإسرائيليون، حالياً، عبر عملياتهم في قطاع غزّة، تكريس هذا المبدأ، رغم أن المقاومة الفلسطينية لا تزال قادرة على توجيه صواريخها إلى العُمق الإسرائيلي، وجديدها أخيرا، أول من أمس الخميس، حين أُطلقت عشرات الصواريخ من القطاع في وقتٍ متزامن. غير أن ذلك، بطبيعة الحال، لن يمنع الاحتلال من محاولة المحافظة على هذه الثابتة، علماً أن الإسرائيلي، في لبنان مثلاً، يبقى عاجزاً عن تطبيقها، لأسبابٍ أميركية أولاً، قبل التطرّق إلى أسباب أخرى.
غير أن نقل الحرب إلى الجهة الأخرى يمكن أن يحمل عنواناً غير عسكري. على سبيل المثال، تُشكّل أيرلندا وإسبانيا ألماً مزمناً في الرأس لحكومة بنيامين نتنياهو. الدولتان الأوروبيتان واجهتا، بالحدّ الأدنى، ضغوطاً من دول كبرى من التكتّل الأوروبي لمنح التفويض الشامل للاحتلال في عدوانه على غزّة، غير أنهما احتفظتا بموقفٍ مبدئي، قد يكون ناجماً عن موروثاتهما السياسية والاجتماعية: أيرلندا بسبب السيطرة البريطانية على أيرلندا الشمالية، وإسبانيا بسبب النشاط القومي للكتالونيين والباسكيين في العقود الأخيرة.
فرضية التدخّل الإسرائيلي في دبلن ومدريد ليست خيالية، وفقاً لأرشيف عمل الموساد في دول عدّة، بل وتباهيه بذلك. ومع أن الدولتين المعنيتين ليستا في الجوار الإقليمي للاحتلال، إلا أن فرصاً مثل أزمة اقتصادية أو خلاف سياسي ـ اجتماعي مرتبط بنزاعٍ بين يمين متطرّف ومناوئيه، قد يجعل من أيرلندا وإسبانيا ساحتين مضطربتين، تُطيح المعسكرات المؤيدة لحقوق الفلسطينيين. في السودان، على سبيل المثال، "يتفاخر" الإسرائيليون بأن ثلاثة من عناصر الموساد نجحوا في تموين الجنوب السوداني، في بدايات حربه مع الخرطوم، لتمكينه بما يكفي لمواجهتها، وبالتالي، سحب الجيش المصري من سيناء إلى جنوب البلاد لحماية الحدود مع السودان، وذلك في مرحلة ما قبل اتفاقات كامب ديفيد.
لماذا لا ينبغي تجاهل النوايا الإسرائيلية في ضرب كل من لا يقف إلى جانب العدوان على غزّة؟ السوابق عديدة في هذا السياق. دائماً ما يتكلم الإسرائيليون عن الثأر، ولو بعد ألف عام. ودائماً ما يستعينون بمنطق "الذاكرة"، سواء بما يتعلق بعملية ميونخ في 1972 أو بما يعتبرونه "العودة إلى أورشليم (القدس) بعد ثلاثة آلاف عام". وضمن هذا المنطق، وفي أي حكومة، يمينية أو يسارية لكن صهيونية، لن تتأخر إسرائيل في رسم خريطة طريق لمهاجمة من عارضها في "حرب الوجود"، بحسب وصفها، في غزّة.
في هذه النقطة، يجب التوقّف لحظة، والتمعّن قليلاً بالعقل الإسرائيلي القائم على الاستنفار الأزلي لأن "كل العالم ضدّنا". ومن يغوص في تفكير كهذا، يُنشئ شبكة من الحواجز الانعزالية، التي توجّهه نحو مكان واحد فقط: "بما أننا مُضطهدَون، فإن كل شيء مباح لإزاحة من يضطهدنا". ربما، لو أنهم فكروا بعقلانية، لخرجوا بجوابٍ واحد، مفاده أن كل ما يفعلونه، بمثابة اختراع ألف كذبة لتغطية أول كذبة، احتلال فلسطين.
هنا يجب نقل الحرب إلى دواخل عقولهم، ومحاربة ما اصطنعوه من تصوّرات، وما يرتكبونه من جرائم، والإدراك أن ما حصلوا عليه من دعم عالمي، على مدار أكثر من سبعة عقود، لن يبقى كما هو بعد سنوات قليلة. عقدة الذنب الألمانية لن تستمرّ إلى الأبد، وتشبيه إسرائيل بنظام الأبارتهايد الذي ساد في جنوب أفريقيا سيتزايد، والمجتمعات الغربية باتت أكثر فهماً للقضية الفلسطينية. لا يعني هذا أن كل شيء سيكون على ما يرام اليوم، لكنه يعني للإسرائيليين أن نقل الحرب إلى أيرلندا وإسبانيا، في لحظة ما، لن يؤدّي إلى إراحة عقولهم وتحقيق ثأرٍ، بل إلى تسريع نهايةٍ أقلقت ديفيد بن غوريون في البداية.