إسقاط مساعدات... سقوط رهانات
تبدو باعثةً على السخرية والدهشة هذه الاستعراضات الجوية التي تمارسها طائرات مصر والأردن في سماء غزّة، بالتزامن مع ما يشبه إعلان التوّصل رسميّاً إلى اتفاق جديد للتهدئة يوشك أن يبدأ تنفيذه بالفعل.
التسريبات شبه المؤكّدة عن بنود الاتفاق المزمع إعلانه في إطار تفاهمات باريس تتضمّن أوّل ما تتضمّن السماح بدخول المساعدات إلى قطاع غزّة، بل يروّج الكيان الصهيوني نفسه مسألة إيصال المساعدات الإنسانية إلى مناطق القطاع المدمّرة بفعل العدوان الهمجي على مدار خمسة أشهر.
نحو 145 يومًا من العدوان الشامل، جوًّاً وبحراً وجوًّاً، على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة من دون تحرّك عملي وجاد واحد من أشقاء غزّة الأقرب، المرتبطين جغرافيًاً بها من خلال معابر برّية من المفترض أنّ لهم السيادة عليها، لكنهم يجأرون بالشكوى طوال الوقت من تعنّت الاحتلال وتهديده بقصف أيّة شاحناتٍ تعبر حاملةً المساعدات إلى الشعب الواقع تحت الحصار والتدمير.
نحو 21 أسبوعًا من القتل والتدمير والتجويع والإمعان في استهداف الأحياء والأموات والصمت الرسمي العربي بمثابة سلاح إضافي يثخن جراح الفلسطيني المحاصر الذي ينادي ولا مجيب.
بُحّت الأصوات التي تقول إنّ هذا العدو أجبنُ من أن يفكر في قصف قوافل تحمل العلم المصري وتحميها قوات مصرية تستخدم حقها السيادي في معبر رفح وصولًا إلى غزّة، والرد واحد لا يتغيّر: لا نستطيع لأن إسرائيل ستضربنا وتضرب مساعداتنا، وهو الردّ المخجل الذي يهين كلّ الاعتبارات القومية والوطنية والإنسانية، ويُسقط كلّ الرهانات والفرضيات والمسلّمات التاريخية التي تقول إنّ أيّ اعتداءٍ على فلسطين هو اعتداء على أشقاء فلسطين، وإنّ الدم الذي أوغل فيه العدو الأكثر انحطاطاً في التاريخ هو نزفٌ من الجسد العربي كلّه، من الضروري أن يهبّ باقي العرب لإيقافه والدفاع عنه.
كان كلّ شيء، إذن، رهن قرار إسرائيل وإرادتها وإذنها، في ظلّ التزامٍ عربيٍّ مشين بهذه المعادلة، مخافة ضربة عسكرية، أو خشية تعطّل مصلحة اقتصادية، ومع الوقت صار الملتزمون العرب يصفون هذا الوضع بأنّه منتهى الحكمة والكياسة، فما الذي تغيّر حتى نرى سباقًا بين طائرات الجيل الأول من المطبّعين العرب مع الكيان على التحليق من دون خوف أو قلق فوق سماء غزّة لإسقاط المساعدات؟
هل أدركوا فجأة أنّ هذا الاحتلال هشٌّ وجبانٌ ولن يجرؤ على اعتراض الطائرات العربية؟ أم أنهم اكتشفوا وجود مخزونٍ منسيٍّ من جسارتهم وشجاعتهم بمحض المصادفة فقرّروا إطلاقه واستخدامه؟ أم أنّهم تبيّنوا بغتةً أنّ هذا الذي يموتُ جوعاً وعطشاً وحرماناً من الخدمة الطبّية شقيق ينبغي لهم نجدته وإغاثته؟
من المهمّ هنا التذكير، مرّة أخرى، بأنّ اجتماع قمّة الرياض التي انعقدت بعد نحو خمسة أسابيع من العدوان على غزّة فرضت على الدول العربية والإسلامية المشاركة في الاجتماع إدخال المساعدات إلى غزّة رغم أنف الاحتلال، إذ نصّ البند الثالث من مقرّرات القمّة على "كسر الحصار على غزّة وفرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية عربية وإسلامية ودولية، تشمل الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع فوراً، ودعوة المنظمّات الدولية إلى المشاركة في هذه العملية، وتأكيد ضرورة دخول هذه المنظمات إلى القطاع، وحماية طواقمها وتمكينها من القيام بدورها كاملاً، ودعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا". فيما قرّر البند الرابع "دعم كل ما تتخذه جمهورية مصر العربية من خطوات لمواجهة تبعات العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزّة، وإسناد جهودها لإدخال المساعدات إلى القطاع، ويكون ذلك فوراً ومستداماً وكافياً". ... من حقّنا أن نستفسر من فرسان الجو ونسوره الذي يسقطون المساعدات الآن: لماذا تأخّرتم نحو أربعة أشهر ثم قرّرتم الآن فقط غوث الشعب الفلسطيني؟
مؤسفٌ أن تكون المسألة برمتها كانت وتبقى مرهونة بإذن إسرائيل، هي التي تقرّر المنع والمنح، وتختار التوقيتات والظروف، وأنّ ما يجرى من استعراضاتٍ مبتذلة الآن، مع الإقرار بأهميته وفائدته وجدواه في تخفيف آلام الشعب الشقيق المحاصر، ليس إلا بندًا مسكوتًا عنه من بنود اتفاق باريس الذي قد يبدأ سريانه بعد بضعة أيام.
جيد جدًّا أن نشاهد لقطات من عملية إسقاط مساعدات، لكنه سيئٌ جدًّا أن نشاهد سقوط رهانات ومسلّمات ومفاهيم كنّا نظنّها مستقرة عمّن هو العدو، ومن هو الشقيق.