إعادة اكتشاف المدينة
مدينة خانيونس مسقط رأسي، فقد أطلقتُ صرختي الأولى في الحياة بين جدران أحد بيوت مخيّمها، وبقيت في ذلك المخيّم حتى الرابعة من عمري، حين انتقلت عائلتي إلى بيت مبنيّ من الإسمنت على أطراف المدينة. أما بيتُنا في المخيّم فقد كان مبنياً من حجارة طوب، وذا سقفٍ من القرميد المهشّم. ولم يكن في استطاعة والدي في أواسط سبعينيات القرن الماضي تجديد بيت المخيّم، حيث أصدر الاحتلال قراراً بعدم البناء في المخيّم لكي يضطر اللاجئون للخروج منه بحثاً عن بيت أفضل وأوسع.
وهكذا غادرت مع عائلتي طفلة في الرابعة من عمرها بيت المخيّم، وإن لم تنقطع علاقتنا بالمخيّم وأهله، فقد بقيتُ أحرص على زيارة جيراننا الذين بقوا فيه. ومع تغيّر القوانين بمرور السنين أقاموا بناياتٍ من عدة طوابق، وكان عليّ أن أدور حول بيت عائلتي الذي تحوّل إلى بنايةٍ عاليةٍ يطلّ عليّ منه وجه نسوة يعرفنني ويلوّحن لي من شرفاته.
أمضيتُ في أنحاء مدينة خانيونس نصف قرن من عمري، عرفتُ وحفظت فيه بحرها وأرضها وشوارع المدينة ومقابرها وأسواقها، وظننتُ أنني لا أجهل زقاقاً فيها، وقد نبع حبّي لها لأنّي كنتُ أرتع في كل شبر منها مع جدّي تارّة، ومع أبي تارّة، ومع أمي تارّات كثيرة، وحيث كانت تقطع مسافاتٍ طويلة لتصل إلى مدرستها، حيث كانت تعمل معلّمة، وتصرّ على أن تمشي بخطواتٍ سريعة، متعلّلةً بأن مدرستها ليست بهذا البعد، ولكن أمّي كانت حريصةً على توفير كل قرش من أجل عائلتها، فلم تضع بند استخدام المواصلات نُصب عينيها أبداً حتى مع اعتلال صحّتها لاحقاً.
هكذا عشتُ في مدينتي الجنوبية، حتى انتقلت إلى السكن في مدينة غزّة، تاركة مدينتي وأنا أعتقد أنني أعرفها، وأنني حين أعود سأصل إلى كل مكان وأنا مُغمضة العينين، ومرّ عامان على بعدي عنها حتى جاءت هذه الحرب الضروس، والتي كشفت جهلي بمدينتي، وجعلتني أعيد اكتشافها.
هنا في أقصى الجنوب، أي في مدينة رفح، وحيث وصل بي مسلسل النزوح، أتابع الأخبار لحظة بلحظة، عن اجتياح مدينتي البرّي، فأسمع في نشرات الأخبار المتواترة أسماء مناطق لا أعرفُها، وربما كنتُ أمرّ بها من دون أن أعرف اسمَها، وهناك احتمالٌ آخر، أن سكّانها المحليين قد أطلقوا عليها أسماء داخلية خاصة لم تكن تُتداول إلا بينهم، حتى إذا ما جاءت الحرب ونزح هؤلاء البسطاء الطيبون المسالمون، وولّوا فراراً من القصف، صرتُ أسمع عن أسماء مناطقهم، وأسأل من حولي أين تقع منطقة "قيزان أبو رشوان" مثلاً؟ وقد امتلأت الدنيا صراخاً بضرورة إخلاء سكانه له، وكلمة القيزان محلّية متداولة بين سكّان خانيونس الأصليين، وتعني الوعاء العميق. ولذلك يطلق مسمّى القيزان على المنطقة المنخفضة العميقة، والتي تأثّرت بالعوامل الجوّية على مرّ الزمن، ولكن ذلك لم يمنع أن تقطنها عائلاتٌ ممتدّة تحرص على اللحمة والتجمّع عن طريق العيش في بيوتٍ متلاصقة، والتزاوج فيما بينهم، وحلّ مشكلاتهم، من دون اللجوء للحكومة. ولذلك ردّ عليّ أحدهم مستنكراً وهو يصف لي موقع منطقة "قيزان أبو رشوان"، ولكي أكتشف أنه لا يبعد كثيراً عن بيت عائلتي الذي عشت فيه عشرين عاماً قبل زواجي، وتذكّرت أنني كنتُ ألعب في محيط البيت، ولم أكن أقترب من حدود هذا القيزان، لأن أهله ينظرون إليّ نظرات متوجّسة، وكأنني سأقتحم مجرّة مجهولة خاصة بهم.
هكذا أعدتُ اكتشاف مدينتي، ولكن ذلك لم يحدُث إلّا وهي تتهاوى وتنهار، والصور المؤلمة تصل إليّ، وأبكي حين أسمع أخبار الدمار فيها، حتى بلغني خبر مؤلم لم أحتمل مجرّد تخيّله، واكتشفت أن المدينة لم تعد مدينة، فأمام البيت الذي عشت فيه زوجةً وأمّاً، هناك مساحة خضراء واسعة مخصّصة لكي يلعب بها الصبية، وفيها بعض الأشجار المعمّرة التي كنّا نحرص عليها نحن الجيران، فهي التي تعطى بعض الجمال للمنطقة التي تكتظّ بالعلب الإسمنتية. أمّا ما حلّ بهذه الساحة التي كنت أرقبُ من خلال شرفتي أطفالي وهم يلهون فيها، فقد تحوّلت إلى مقبرة.
نقلت الأخبار أن جيراناً لي سقطوا وتم دفنهم في هذه الساحة على عجل، قبل أن يهرب ذووهم باتجاه البحر في غرب المدينة. ولذلك لا يكفي البكاءُ هذا الخبر، فكيف لعقلي أن يتصوّر أن مرتع طفولة صغاري قد تحوّل إلى مقبرة.