إعادة كتابة التاريخ وتزييفه .. "الاختيار 2" نموذجاً
دائماً ما كان التاريخ، وقائعه وحقائقه وسردياته، محل خلاف ونزاع. وكثيراً ما كتب التاريخ بناء على تحيزات دينية أو مذهبية أو إيديولوجية أو عرقية أو سياسية. كذلك، لا يخفى على المتخصّصين أن المُتَغَلِّبَ حريصٌ على أن تقدّم الأحداث ضمن إطار سرديته ومصالحه واشتراطاته. ومن ثمَّ، فإن أجزاء واسعة من التاريخ بين أيدينا اليوم لا تخلو من تشويه وتلاعب وتزييف وتزوير، قد يصل إلى حدَّ الافتعال والاختلاق. ولا تقف الأمور عند هذا الحد، إذ إن العبث بحقائق التاريخ لا يقتصر على لحظة تدوينها، بل إنها قد تكون بأثر رجعي، ضمن نسقية تسمّى "إعادة كتابة التاريخ". وحسب أستاذة التاريخ البريطانية، شارلوت ليديا رايلي، فإن بعض المؤرخين لا يساورهم قلق من عمليات إعادة كتابة التاريخ، ذلك أنهم مقتنعون أن هذا هو الدور المناط بهم. لذلك فإنها تدعو إلى التيقظ في مواجهة مثل هذه الجهود، ومحاولات "تبييض" صفحات سوداء في تاريخنا، أو حتى "محوها".
تداعت إلى خاطري هذه الأفكار على هامش الجدل الحاد المثار حول المسلسل المصري "الاختيار 2"، والذي يعرض حالياً في شهر رمضان المبارك، ويتناول الأحداث التي أعقبت ثورة 25 يناير، في العام 2011 في مصر، وأدت إلى خلع الدكتاتور المصري الراحل، حسني مبارك. إلا أن أكثر ما أثار الصخب في الجدل الدائر بشأن المسلسل تبنّيه سردية الانقلاب العسكري في مجزرتي فض اعتصامي ميداني رابعة العدوية في القاهرة، والنهضة في الجيزة، في أغسطس/ آب 2013، واللتان ذهب ضحيتهما مئات القتلى وآلاف المصابين بين المعتصمين السلميين المحتجين على عزل الرئيس الراحل، محمد مرسي، مطلع شهر يوليو/ تموز من العام نفسه. وتزعم السردية الانقلابية، ومؤيدوها، إن الاعتصامين كانا مسلّحين، وإن المعتصمين هم من بدأوا بإطلاق النار على رجال الأمن الذين حاولوا فضَّ اعتصامهم سلميا. في حين يؤكد من شاركوا في الاعتصامين أنهما كانا بالفعل سلميين، وأنه لم تكن هناك أسلحة فيهما.
لا حل أمام نظام السيسي إلا بالعودة إلى السرديات التاريخية للعبث فيها، وتحميل بعض لاعبي الأمس المسؤولية عن سيرورة الأزمة
المفارقة البغيضة في هذا السياق أن الاعتصامين كانا محلّ تغطية إعلامية، مصرية وعربية ودولية، واسعة من ساحتي الحدث مباشرة. بمعنى أن يومياتهما وحوادثهما ونشاطاتهما موثقة، صوتاً وصورة، دقيقة بدقيقة، بشكل لا يرقى إليه شك. ومع ذلك، لا يجد النظام العسكري في مصر، ولا أبالسته من المتواطئين معه في مساعي التزييف، ذرّة خجل تردعهم عن محاولة إعادة كتابة تاريخ ما زال نابضاً بالحياة، عايشه أغلبنا، وشهوده أحياء. وكانت منظمات حقوقية دولية معتبرة، مثل منظمة العفو الدولية، وهيومان رايتس ووتش، وصفت المذبحتين بأنهما ترقيان إلى جرائم ضد الإنسانية. ما يحدث هنا ليس عبثاً، بل هي محاولة خبيثة، ولكن واعية، من نظام العسكر، لإعادة كتابة الماضي مرّات ومرّات، حتى يتسنّى له صناعة سردية زائفة، تصبح مع الوقت هي السائدة، وتمثل الحقيقة المطلقة. إنها محاولة لغسل وعي الأجيال القادمة وتنميطه. وهي محاولةٌ للعبث بوعي الجيل الذي عايش الجريمة وتخليط الحقائق عليه.
في روايته "1984"، ينبه الصحافي والروائي الإنكليزي الشهير المعادي للاستبداد، جورج أوريل، إلى المقاربة السابقة التي تلجأ إليها الأنظمة الاستبدادية. حسبه، تدرك تلك الأنظمة أن "من يتحكّم بالماضي يتحكّم بالمستقبل، ومن يتحكّم بالحاضر يتحكّم بالماضي". إذن، هي مقاربة تروم التحريف والتزييف في أفق إحكام القبضة على الذاكرة والحقيقة والتاريخ والحاضر والمستقبل، وبالتالي توفير قدرةٍ أكبر على التحكّم بالناس ووعيهم. تنقل أستاذة التاريخ البريطانية، رايلي، السابق الإشارة إليها، عن المؤرّخ الألماني، ليوبولد فون رانك، أن دراسة التاريخ لا تنحصر في اكتشاف "كيف حدث ذلك بالفعل"، ولكنها تشمل، أيضاً، كيف نفكّر بالماضي وطبيعة علاقتنا به. وبهذا، إذا كان الماضي ميتاً، فإن التاريخ حيٌ، وهو قائم في الحاضر، كما تلاحظ رايلي محقة.
إذا كان يمكن تزوير التاريخ القريب الذي عايشناه ونعايشه، والموثّق صوتاً وصورة، فكم من المصداقية تحمل أحداث التاريخ البعيد التي بين أيدينا
النقطة الأخيرة شديدة الأهمية، فإذا كانت أحداث المجزرتين، محل الجدل الآن، ماضياً منتهياً، فإن تداعياتهما وآثارهما حاضرة قائمة، وهما في حالة تفاعل وسيرورة لمّا تصل إلى نهايتها بعد. ومرة أخرى، لا ينبغي أن يتوّهم أحد أن هذا المعطى غائب عن النظام المصري الحالي، أو عن أي سلطةٍ مستبدّة في العالم، ومن ثمَّ فإن جهودهم المستميتة للتحكّم في السرديات لا تنتهي أبداً. وعودة إلى مصر، إذا أخذنا في الاعتبار فشل نظام عبد الفتاح السيسي على كل صعيد، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً وتنموياً ومائياً.. إلخ، فماذا تبقى له من شرعياته التأسيسية المزعومة بأنه جاء لإنقاذ مصر من "كارثة" حكم الإخوان المسلمين؟
مصر اليوم تحت حكم عبد الفتاح السيسي من أسوأ إلى أسوأ، ليس فقط على صعيد الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويكفي أن تتابع الأخبار اليومية لترى حجم الفاجعة هناك، من تصادم قطارات إلى سقوط مبانٍ سكنية إلى جنوح باخرة في قناة السويس إلى وقوف مصر على أعتاب أزمة مائية قاتلة جرّاء مضي إثيوبيا في بناء سد النهضة على منابع النيل. دع عنك طبعاً الفساد والقمع والفقر والتفريط في حقوق مصر السيادية على أراضيها وشطآنها وثرواتها، واستمرار التردّي الاقتصادي والفشل في التصدّي لجائحة كورونا.. إلخ. أمام ذلك كله، ماذا تبقى في ترسانة النظام من أعذار وحجج حول وعود بمستقبل وردي أجمل؟ لا شيء. ومن ثمَّ، لا حل أمام هذا النظام إلا بالعودة إلى السرديات التاريخية للعبث فيها، وتحميل بعض لاعبي الأمس كامل المسؤولية عن سيرورة الأزمة اليوم. إنها، كما نبه أوريل من قبل، محاولة من نظام العسكر وأبالسته للتحكّم بالحاضر والمستقبل عبر التحكم في الماضي.
كلمة أخيرة، إذا كان يمكن تزوير التاريخ القريب الذي عايشناه ونعايشه، والموثّق صوتاً وصورة، فكم من المصداقية تحمل أحداث التاريخ البعيد التي بين أيدينا ومن يجزم بصحتها كاملة كما تُروى، وبأنها لم تخضع لنزوات المتحيّزين، أو لتلاعب محترفي إعادة كتابة التاريخ؟