إلى التطبيع مع كورونا
لمفهوم التطبيع، بشيوعه المعلوم، معنىً مرذول. وهو يبقى كذلك في العنوان أعلاه، عندما يعني علاقةً طبيعيةً مع فيروس كورونا. وطبيعيّة هذه العلاقة هي المواجهة والاحتراس والاحتراز، وليس التعايش الذي يحيل إلى "تفاهمٍ" مع الفيروس، ويستسلم إلى اعتباره من تفاصيل الحياة وطوارئها. ولأن المسألة في أساسها ليست معجميّة، بل صحيّة واجتماعيّة واقتصادية، ولأن القضاء على الوباء (باللقاح) ليس منظوراً في وقتٍ قريب، ولأن منظمة الصحة العالمية ترجّح أن الإنسانية لن تتخلّص من الجائحة قبل عامين، ولأن مصادر طبية وازنة تقول إن الوباء باقٍ إلى الأبد، فذلك كله يعني أن التطبيع مع الفيروس يصير ملحّاً، بل ربما الصيغة الأنسب للتعامل معه، ولكنه التطبيع الذي يعني العيش الأقل من الطبيعيّ تماماً، مع الأخذ التام بكل شروط الوقاية من الإصابة، فردياً وجماعياً ومؤسّساتياً، وبكل متطلبات تطويق الفيروس، من دون كلامٍ كثيرٍ عن تضحيةٍ بالناس في مقابل حماية الاقتصاد من تدهور أكثر. ووجيهٌ جداً القول إن تشدّد دولٍ غير قليلة، بإغلاقاتٍ واسعةٍ وحظرٍ للتجول ووقف الطيران وإغلاق دور العبادة والمدارس والجامعات والملاعب، سيما في الشهور الأولى من انتشار الوباء، كان إجراءً شديد الضرورة، وأعطى نتائجَه الحسنة، غير أن الإبقاء على هذا كله لن يؤدّي إلى قتل الفيروس، وإنهاء ضرباته المباغتة والغادرة. ولمّا بادرت دولٌ عديدة، منذ منتصف مايو/ أيار الماضي، إلى فتحٍ تدريجيٍّ للقطاعات، ثم واصلت ذلك بشكل أوسع في مناحٍ مختلفة، فإنها لم تخطئ، وإن استجدّت، أخيرا، ضرباتٌ شديدةٌ للفيروس، في ارتفاعاتٍ ظاهرةٍ للإصابات، ذلك أن معادلةً بديلةً يجب أن تأخذ بها الدولة، ومعها المجتمع، يظلّ الأساسيّ فيها الوعي العام بأهمية شروط الوقاية والاحتراس، ولا سيّما الثلاثي الشهير: التباعد والكمّامة والتعقيم.
لو بادر واحدُنا إلى دعوةٍ إلى التطبيع، بالمعنى الموضَح هنا، مع فيروس كورونا، في تلك الأشهر الأولى، لكان فعلُه شاذّاً، أو أقله غير منطقي، غير أن هذا التطبيع، وإنْ مع بدء موجةٍ ثانيةٍ للوباء يجري الحديث عنها منذ أيام، يصبح ضرورياً الآن، مع التشديد الأكثر وجوباً على شروط الوقاية المعلومة، وعلى أخذ كل دولةٍ بالإجراءات التي تقتضيها أحوال الوباء فيها. ولم يلوّح ملك المغرب، محمد السادس، بتهديدٍ، قبل أيام، لمّا قال إن اللجنة العلمية المختصة بالوباء في بلاده قد توصي بإعادة الحجْر الصحي، إذا استمرّت أعداد الإصابات في الارتفاع. ومعلومٌ أن المغرب شهد، في الأيام القليلة الماضية، ما يمكن وصفها انتكاسةً (ولو بشيءٍ من التجاوز) في ملف كورونا، عندما ارتفعت الإصابات والوفيات، في بؤرٍ للوباء غير قليلة، إلى أرقامٍ مقلقةٍ جداً. وكذلك حال الحكومة الأردنية التي صارحت مواطنيها بأنها إذ صارت تعمد، منذ أيام، إلى إغلاقات جزئية في بعض المحافظات، وإلى تشدّدٍ مضاعف في إجراءات حظرٍ باقية، فإنها قد تضطرّ للعودة إلى إجراءاتها السابقة (المبالغ فيها بحسب ناقدين). وطيّبٌ من رئيس الوزراء، عمر الرزاز، قوله، أمس الأحد، إن الحكومة ليست معصومةً من الخطأ، وإنها لا تملك العصا السحرية، في ما يبدو تلميحاً منه يردّ على انتقاداتٍ شاعت، أخيراً، عن خللٍ وتقصيرٍ في الإجراءات الحكومية في المعبرين مع السعودية وسورية. والبادي أن الأردنيين، رسمياً وشعبياً، مدعوون إلى التخفّف من نشوة البهجة بالتقدّم الطيب الذي أحرزوه في مواجهة كورونا، "الخصم الشرس" و"الذي علينا أن ندرك أننا نخوض نزالا طويل الأمد"، بتعبير الرزاز.
كتب عزمي بشارة، في مطالعته المبكّرة "جبر الخواطر في زمن المخاطر: الناس والوباء" (العربي الجديد، 21/4/2020)، وهي الأوفى فكريا بشأن كورونا عربيا، إنه "لا عودة إلى حياة "طبيعية"، والذاكرة الإنسانية تعجز عن استرجاع لحظتها "الطبيعية"، ولكن لا بأس بتركيب ما نعتبره طبيعيّاً، في مقابل "غير الطبيعي" الذي نعيشه". والبادي، راهناً، أن هذا (التطبيع المركّب) مع "كوفيد 19"، بتعبيرٍ جائز، هو الأدعى أن يُدعى إليه. وعندما قال وزير الصحة الأردني، سعد جابر، في مايو/ أيار الماضي، إن جهود الدولة في مواجهة كورونا تساوي 10% فيما جهدُ المواطن يساوي 90%، فإنما كان يؤشّر، بكيفيةٍ ما، إلى البعد المركّب في التطبيع المدعوّ إليه هنا، والذي يزداد وجوب الأخذ بمتطلباته، دولتياً واجتماعياً وفردانياً، مع النشاط الذي تجدّدت به ضربات كورونا أخيراً.