إنها تغريبة لبنانية

28 سبتمبر 2024

نزوح كبير بسبب الهجمات الإسرائيلية من جنوب لبنان باتجاه صيدا (24/9/2024 الأناضول)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

لم يسبق للاحتلال الإسرائيلي أن شنّ غارات جوية بهذه الكثافة، كما فعل في الأسبوع الذي انقضى، في اعتداءاته التاريخية ضد لبنان. حتى في اجتياح بيروت في عام 1982، لم يحصل هذا. المشاهد محزنة في لبنان. ربما هي أقرب إلى تغريبة لبنانية، أصعب من تهجير الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990) والحروب الإسرائيلية معاً. وإذا كان مهجّرو الحرب الأهلية استطاعوا وقتها اللجوء إلى أماكن آمنة نسبياً، غير أن لا مكان آمنا في لبنان، في غضون العدوان الإسرائيلي واسع النطاق، الذي بدأ الاثنين الماضي، وإن بنسب متفاوتة. لم تترك الغارات الإسرائيلية قرية في الجنوب اللبناني تقريباً من استهدافاتها، لا جنوب نهر الليطاني، ولا شماله. البقاع، الذي صُنّف المنطقة الأكثر أمناً خلال الحرب الأهلية أضحى ساحة لغارات إسرائيلية متلاحقة ومكثفة. جبل لبنان، من الشوف في جنوبه إلى جبيل وكسروان في شماله، دخل دائرة الاستهداف. ما الذي يُمكن قوله عن الشهداء والجرحى؟ انتقل الآلاف إلى مكان أفضل، وأمثالنا ينتظرون غداً أكثر اختلافاً.

هل كان ممكناً تجنّب ذلك؟ بعيداً عن الجواب أو الأجوبة التي ستُشعل نقاشاتٍ حامية في مرحلة ما مستقبلياً، إلا أن المسار الاجتماعي للأوضاع، الحالي والمقبل، في لبنان كارثي. لا نظام ولا قانون في المناطق التي تعرّضت للتدمير الإسرائيلي. سرقات البيوت المهدّمة وعمليات الاحتيال على المهجّرين واستغلالهم والانتقام السياسي وفائض القوة والشعور بالإحباط والإحساس بالضعف والتعاطف والذل والمهانة، كلها عناصر حضرت في التعاطي مع إفرازات العدوان. وإذا كانت تلك العناصر قادرة على زعزعة أسس مجتمع، فكيف بلبنان، المتنوّع طائفياً والهشّ دولتياً ومتعدّد الهويات، الوطنية والعابرة للأوطان؟ لن تكون الأمور سهلة في مرحلة ما بعد انتهاء العدوان، المجهول موعده. والاكتفاء بإعادة الإعمار، إن جرى بأسرع وقت، لن يجلب سلاماً في بلادٍ بلا راعٍ رسمي، بينما يهيمن الفراغ السلطوي لدى سلطة القرار اللبناني.

من السهل رفع شعارات شعبوية والصعود إلى سابع سماء، لكن الواقع سيبقى واقعاً. هناك أشخاص استيقظوا الاثنين الماضي، ككل يوم من حياتنا، وفجأة وجدوا أنفسهم يغتربون شمالاً. منهم من قال إنه سيعود خلال أيام، لكن مواطنةً أبدت توقّعاً متشائماً بقولها "خايفة يكونوا أهلي ودّعوا البيت ومش رح نرجعلو". هذه واقعية غير متصلة لا بقرار سياسي ولا بتأييد ومعارضة، بل واقع معيوش. أشخاص غادروا منازلهم، وقد لا يعودون إليها لأسبابٍ عدّة. وأيضاً هناك أطراف هاجمت حزب الله باعتباره فتح جبهة إسناد لغزّة من دون التشاور مع اللبنانيين، ثم وجد نفسه أمام أعتى سلاح طيران في الشرق الأوسط والبلاد تنهار من حوله وحولنا، بينما يواصل الإيرانيون مفاوضاتهم مع الأميركيين في نيويورك. هذا واقعٌ لا يمكن تغييره أو طمسُه، بل على العكس، ستزداد حدّته في مرحلة لاحقة.

لو سُئل أي لبناني، لا عربي وغربي، بل لبناني حصراً، في أغسطس/ آب 2019، عن توقعه مستقبل البلاد في 2024، لما ظنّ في أسوأ كوابيسه أن انهياراً مالياً سيحصل، وحاكم مصرف مركزي سيُسجن، وانفجار مرفأ بيروت سيدوّي، وفيروس كورونا سيتفشّى، وفراغاً سياسياً في سلم النظام، وأن ثروات نفطية قابعة في البحر من دون استخراجها، وأن عدواناً سيطاول البلاد. في أغسطس 2019، كان ليقول إن مستقبل لبنان مشرق. الكثير من الصناعة والزراعة والتقنيات، مع قليل من الخدمات المالية والسياحية، كان ليكفي من أجل تقدم المجتمع وسعيه نحو الازدهار. مؤلم ما وصل إليه لبنان، ومحزنٌ أن ذلك حصل بفعل أبنائه، قبل أعدائه. لا أحد يستحقّ ذلك، لا طفلة استشهدت على دروب الجنوب ولا رفيقتها في انفجار المرفأ ولا سيدة في بلدة بقاعية ولا شيخ في قرية كسروانية. الأجيال اللبنانية لا تستحقّ ذلك، لا باسم الدين ولا باسم الشعب ولا باسم التاريخ.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".