"إنها دولة يهودية منذ وثيقة الاستقلال"
نجحت خطّة إضعاف الجهاز القضائي في إسرائيل، التي تدفع بها حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، حتى اللحظة، في إعادة تذكير المحكمة العليا بالدور الرئيسي المُعوّل على هذا الجهاز، وهو دور خدمة الدولة اليهودية، التي من أجل تكريسها سُنّ "قانون القومية الإسرائيلي" قبل نحو خمسة أعوام. وكذلك أفلحت في التذكير بأن أداء المحكمة هذا الدور على الوجه الأكمل لا يُعدّ احترامًا لهذا القانون الأساس الدستوريّ فحسب، إنما أيضًا هو بمثابة تطبيق لمبادئ "وثيقة الاستقلال" التي ركّزت على يهودية "دولة إسرائيل" وأُسقطت منها عمدًا كلمة ديمقراطية.
وينبغي القول إن هذه الرسالة كانت مثل سيفٍ مُسلط فوق رأس المحكمة العليا منذ أعوام طويلة، وأصبح يُلوّح به أكثر فأكثر منذ عام 2009 الذي عاد فيه نتنياهو وحزب الليكود إلى سدّة الحُكم بعد ولاية أولى بين الأعوام 1996 و1999. وهو ما كرّره أخيرًا أكثر من ناطق مفوّه بلسان الليكود واليمين، ومنهم مثلًا رئيس محكمة الحزب الداخلية عضو الكنيست السابق ميخائيل كلاينر الذي كتب مذكّرًا في صحيفة معاريف (31/3/2023): "إنها دولة يهودية منذ إعلان وثيقة الاستقلال" في 1948.
في مقابل هذا السيف يمتشق معارضو الخطة الذين لا يعترضون على يهودية الدولة، سيف المساواة، طبقًا لما ورد بهذا الشأن في "وثيقة الاستقلال"، التي نصّت على أن "دولة إسرائيل تقيم المساواة التامة في الحقوق اجتماعيًا وسياسيًا بين جميع رعاياها بغض النظر عن الدين والعرق والجنس"، ولكن هؤلاء يتناسون أن الحق في المساواة لم يكن في ممارسة إسرائيل مُطلقًا، كما أن المحكمة العليا ذاتها أخذت في الاعتبار دائمًا أن إسرائيل هي في المقام الأول دولة يهودية، وهو ما كان أمنية مؤسّسيها ومرادهم، وما كان وسيبقى المبرّر والاعتبار الرئيسي لوجودها. وبقيت ملتزمة تجاه الأهداف المركزية للصهيونية، وفي مقدمها الهجرة، والاستيطان، والأمن.
هنا يجب التنويه بأن هذا الحقّ في المساواة كان يتراجع على الدوام، حتى في قرارات تلك المحكمة، أمام حقوق أساس أخرى مرتبطة بما هو ناجم عن الدولة اليهودية، وأمام ما يوصَف بأنه "مصالح مهمة للدولة والمجتمع". وحتى أنّ رئيس المحكمة الإسرائيلية العليا السابق، القاضي أهارون باراك، الذي يتهمه اليمين الإسرائيلي بأنه وراء ما تسمّى "الثورة الدستورية" التي تنتصر برأيه لمبدأ ديمقراطية الدولة على مبدأ يهوديّتها، أكّد مرة أن "حقوق المواطن في إسرائيل ليست منصّة للهلاك القومي"، وأوضح أيضًا أن "الدولة اليهودية هي دولة يقف استيطان اليهود في سهولها ومدنها ومستوطناتها في رأس اهتماماتها".
وفي مُجرّد هذا ما يعني أنه على الرغم من أن الصهيونية لم تكن أبدًا حركة متجانسة كليًّا، إلا أن الاستيطان اليهودي في "أرض إسرائيل" اعتبر دومًا في نظر شتى تيارات الحركة الصهيونية ومكوناتها هدفًا يحتلّ المرتبة الأولى. وهذا الهدف كان مكملًا لهدف آخر، هو هجرة اليهود إلى "وطنهم التاريخي"، وقد اعتبر هو أيضًا في نظر الصهاينة، على اختلاف أجيالهم، ركيزة رئيسية للوطن القومي برمته.
وكان المؤرّخ الإسرائيلي البروفسور زئيف شتيرنهيل (1935- 2020)، وهو أحد كبار الخبراء في الفاشية، قد أشار، في إحدى مقارباته، إلى أن المفهوم الذي يقضي بأن لدى اليهود حقوقًا لا يجوز أن يكسبها الآخرون صار إلى تعزّز مع الاحتلال الإسرائيلي في عام 1967. وبالرغم من ذلك، كانت أمورٌ كثيرة كهذه موجودة في الثلاثينيات والأربعينيات أيضًا في صفوف عدة تيارات داخل الحركة الصهيونية. والاعتقاد أنه لا توجد للعرب حقوق في البلد راسخ بشكل عميق في الفكر السياسي اليهودي. كما شدّد قبل وفاته على أن اليمين المتطرّف الإسرائيلي موجود في الطريق نحو الفاشية، وقد لا يصل إلى هناك. ولكن هذا لا يُقلّل من خطورته، فإن الأنظمة التي لم تعتبر فاشية في أميركا الجنوبية مثلًا كانت أكثر وحشيةً ودمويةً من الزعيم الفاشي الإيطالي موسوليني.