28 أكتوبر 2024
إنه انتحار العقل
يحدث في الخليج الآن انتحار المعنى، بتعبير محمود درويش، واغتيال العقل بتعبير برهان غليون، وانتحار العقل بتعبيرٍ آخر جائز تماما. ولأنه كذلك، حيث تتعطّل السياسة، وتُعطى الصدارة للغة النهش المنحطّة، تصبح وظيفة المعلّق الصحافي صعبة، وربما لا مدعاة لها، ما يعني أن الأنسب هو دعاء الكريم في الشهر الفضيل أن ينجح الشيخ صباح الأحمد في مسعاه الطيّب، مع مغادرتنا، نحن الكتّاب وأهل الرأي، إلى مطارح أخرى، فالموجود قدّامك حفلة زار، عليك أن تكون فيها درويشا، ترطُن بالذي يتفوّه به أولئك السافلون، عن دولة قطر وتسليحها الحوثيين، عن طائرة عزمي بشارة الخاصة، عن "الجزيرة" وصناعتها الربيع العربي. وإذا لم تفعل كما يصنعون، فليس أيسر من أن تُرمى بممالأة الإرهاب. تحترم نفسك، وتُؤثر عدم الانشغال بأيِّ من هذه الخراريف والخرافات، لكنك تجد نفسك غير قادرٍ على وضع أعصابك في ثلاجة، فلا تملك غير الدعاء إلى رب العزة بأن يلطف بنا، نحن عباده الذين لا نتعلم الإسلام من علي جمعة، ولا نعرف فلسطين بعيني محمد دحلان، ولا نتثقّف في السياسة من لميس الحديدي، ولسنا شغوفين بالتنوير والمدنية اللذيْن يقيم عليهما خليفة حفتر، وفينا تعاطفٌ مع شعب مصر إذ بين ظهرانيهم عبد الفتاح السيسي رئيسا. لسنا من هؤلاء، ونحن كثيرون في العالم بالمناسبة، فليست "العربي الجديد" وحدها تسمّي الانقلاب الذي حدث في مصر انقلابا، بل "نيويورك تايمز" و"لوموند" وغيرهما كثيرات. كما أننا كثيرون من نواكشوط إلى المنامة، فالواحد في المائة الذين كانوا يشاهدون "سكاي نيوز" صاروا أقل، ونوبة الاكتراث بجريدة عكاظ العارضة مرّت، وثبت أن أرطال الرداءة في "الغرابيب السود" أقلّ من منتوجات الغرف السوداء كما نصادفها في قناة العربية ومشتقاتٍ مثيلة.
لأن انتحارا للعقل يحدُث، في الرياض وأبوظبي، فإنك لن تعرف أي مدىً يسرع إليه الجنون في العاصمتين، عندما يمنع هذا الجنون المواطن البحريني من زيارة الدوحة، والقطري من التسوّق في دبي، والسعودي من تزجية الوقت في سوق واقف. أليس من راجحٍ أبلغ طبّاخي قرارات فجر الخامس من حزيران 2017 أن الجريمة التي يرتكبونها فادحةٌ بحق أهل الخليج وناسه، الأشقاء والأقارب والأنسباء. أيّ شياطين تجلس القرفصاء في أدمغة هؤلاء الطبّاخين، جعلتهم يرون "حماس" إرهابية. وكان في وسع عادل الجبير أن يطلب من أجهزة بلاده أن تصنّع قصةً عن استهدافٍ مزعوم حاولته حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية ضد أمن المملكة، ثم يُعلن الحركة طرفا إرهابيا تدعمه قطر. ليس في الأرشيف أي واقعةٍ من أي لونٍ ضربت "حماس" في أثنائها طيرا في السعودية. إجهاد الذهن في مسألةٍ كهذه متعب، تماما كما يُتعبك التفكير بالسبب الذي يجعل التورّم في أبوظبي فادحا إلى حد يجعلهم هناك يتوّهمون أن في وسعهم أن يأمروا الدوحة بما يشاءون، وما عليها إلا طاعتهم.
يسألونك، في أتون الزوبعة الحادثة، عن موقفك، مع الإخوانيين والإرهابيين الذين تموّلهم قطر أم مع أبوظبي والرياض في إشاعتهما الحداثة والتمدّن، ليس في الفضاء الخليجي فحسب، بل في ليبيا، وفي مصر حيث لا همّ لدى عبد الفتاح السيسي سوى تصويب "الخطاب الديني"، وفي اليمن، حيث انفصال الجنوب أقْوم للسلام في العالم من أن يتولى يمنيٌّ ملتحٍ من حزب الإصلاح مسؤوليةً في مجلس قروي هناك؟ بوضوح، وبلا تلعثم، أنت لا تُخاصم صنّاع سياسةٍ في أبوظبي والرياض، وتصطف مع دولة قطر، وإنما أنت مع احترام عقلك، مع الأخلاق التي لا يجوز أن تغادرها. كما أن الحياد هنا يعني أنك مع الجنون، والقول إنك عندما تمارسه، وهو الأسلم والأنسب، تنجو برأسك، فأهل الخليج سيتصالحون بعد وقت، وأنت الذي ستضيع بين الرّجليْن، فإنه يُبهجك أن يقع هذا الصلح، وأن يرتدّ التأزم، وأن تبتعد أجواء الحصار البغيضة عن قطر ومن فيها، ولكن حكاية الرّجليْن إنما تعني من لا يفكرون في أبعد من أقدامهم، فلا تخصّك، فأنت اصطففت دائما مع احترامك شخصك، وعقلك... ولم تنجذب يوما إلى الحمقى والمرضى والمعتوهين ممن يدلقون بؤسهم التافه على شاشات الكراهية وجرائد التدليس الرخيص. وإذا أفلح هؤلاء في تعكير مزاجنا بعض الوقت، فإنهم لن ينجحوا كل الوقت.
لأن انتحارا للعقل يحدُث، في الرياض وأبوظبي، فإنك لن تعرف أي مدىً يسرع إليه الجنون في العاصمتين، عندما يمنع هذا الجنون المواطن البحريني من زيارة الدوحة، والقطري من التسوّق في دبي، والسعودي من تزجية الوقت في سوق واقف. أليس من راجحٍ أبلغ طبّاخي قرارات فجر الخامس من حزيران 2017 أن الجريمة التي يرتكبونها فادحةٌ بحق أهل الخليج وناسه، الأشقاء والأقارب والأنسباء. أيّ شياطين تجلس القرفصاء في أدمغة هؤلاء الطبّاخين، جعلتهم يرون "حماس" إرهابية. وكان في وسع عادل الجبير أن يطلب من أجهزة بلاده أن تصنّع قصةً عن استهدافٍ مزعوم حاولته حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية ضد أمن المملكة، ثم يُعلن الحركة طرفا إرهابيا تدعمه قطر. ليس في الأرشيف أي واقعةٍ من أي لونٍ ضربت "حماس" في أثنائها طيرا في السعودية. إجهاد الذهن في مسألةٍ كهذه متعب، تماما كما يُتعبك التفكير بالسبب الذي يجعل التورّم في أبوظبي فادحا إلى حد يجعلهم هناك يتوّهمون أن في وسعهم أن يأمروا الدوحة بما يشاءون، وما عليها إلا طاعتهم.
يسألونك، في أتون الزوبعة الحادثة، عن موقفك، مع الإخوانيين والإرهابيين الذين تموّلهم قطر أم مع أبوظبي والرياض في إشاعتهما الحداثة والتمدّن، ليس في الفضاء الخليجي فحسب، بل في ليبيا، وفي مصر حيث لا همّ لدى عبد الفتاح السيسي سوى تصويب "الخطاب الديني"، وفي اليمن، حيث انفصال الجنوب أقْوم للسلام في العالم من أن يتولى يمنيٌّ ملتحٍ من حزب الإصلاح مسؤوليةً في مجلس قروي هناك؟ بوضوح، وبلا تلعثم، أنت لا تُخاصم صنّاع سياسةٍ في أبوظبي والرياض، وتصطف مع دولة قطر، وإنما أنت مع احترام عقلك، مع الأخلاق التي لا يجوز أن تغادرها. كما أن الحياد هنا يعني أنك مع الجنون، والقول إنك عندما تمارسه، وهو الأسلم والأنسب، تنجو برأسك، فأهل الخليج سيتصالحون بعد وقت، وأنت الذي ستضيع بين الرّجليْن، فإنه يُبهجك أن يقع هذا الصلح، وأن يرتدّ التأزم، وأن تبتعد أجواء الحصار البغيضة عن قطر ومن فيها، ولكن حكاية الرّجليْن إنما تعني من لا يفكرون في أبعد من أقدامهم، فلا تخصّك، فأنت اصطففت دائما مع احترامك شخصك، وعقلك... ولم تنجذب يوما إلى الحمقى والمرضى والمعتوهين ممن يدلقون بؤسهم التافه على شاشات الكراهية وجرائد التدليس الرخيص. وإذا أفلح هؤلاء في تعكير مزاجنا بعض الوقت، فإنهم لن ينجحوا كل الوقت.