هذا التحرّك السعودي
لافتٌ في بيان الهيئة العامّة لتنظيم الإعلام في السعودية، والذي صدر بعد الغضبة العربية الواسعة على قناة MBC، أنه وصَف التقرير الإخباري الذي تسبّب بهذه الغضبة، بعد أن بثّته القناة، وإنْ لم يعرّفها، بأنه "مخالفٌ للأنظمة والسياسة الإعلامية للمملكة". وقد أخبرنا البيان بإحالة المسؤولين في القناة (غير المسمّاة) إلى التحقيق. ومع ثناءٍ، مستحقّ، على هذا الإجراء، فإن سؤالاً ربما يجوسُ في الخواطر ما إذا دفع إلى هذا "التحرّك" الرسمي السعودي اقتحامُ مئاتٍ في بغداد مكتب القناة وتخريبهم فيه، تعبيراً عن عظيم سُخطهم مما انحدر إليه التقرير الشنيع في لغته ومرسلاته، ما قد يعني أن شذوذه، في رميه قادةً شهداء في المقاومة الفلسطينية، وفي حزب الله، بالإرهاب، ربما لم يكن له أن يُتابَع بالتحقيق مع المسؤولين في القناة، لولا تلك الغضبة العالية في بغداد، والتي قد يجوسُ بصددها سؤالٌ آخر في الخاطر نفسه، لا يتعلّق بالذي بادرت إليه السلطات السعودية، وإنما بأنّ لا مثيل لها شوهد في غير العاصمة العراقية، فلم تُعايَن احتجاجاتٌ عربيةٌ أخرى باستثناء وقفة في رام الله، ولم نطالع بياناتٍ من مؤسّساتٍ وهيئات وتجمّعات إعلامية عربية ترفض مضامين التقرير الشديد السوء، والذي تغيب عنه بديهيّات المهنيّة الإعلامية الصرفة.
ولمّا أفادت الهيئة السعودية المختصّة، في بيانها، بأنها "تُتابع باستمرار مدى التزام وسائل الإعلام بالأنظمة الإعلامية للمملكة وضوابط المحتوى"، فإن لأيٍّ منّا أن يستغرب قعودَها عن أي إجراءٍ بشأن قنواتٍ شقيقة للقناة المتَحدّث عنها، لا تزال ترتكب إعلاماً مسفّاً، بشأن الموضوع الفلسطيني وحرب الإبادة الجارية في غزّة، يُخالف الوجهة السياسية التي يعلنها كبار المسؤولين السعوديين، وعبَّر عنها وزير الخارجية، فيصل بن فرحان، في تصريحاتٍ له في المملكة وخارجها، وفي منابر أممية وعربية ودولية.
وإذا قال قائلٌ إن الثناء أعلاه مستهجنٌ، وغريبٌ، معطوفاً على الدعوة المتضمّنة هنا إلى "تدخّل" حكومي في عمل مؤسّسات إعلامية، يُفترض أن نحرص، نحن أهل المهنة، على حرّيتها في أدائها عملها وفقاً لخياراتها، فإن التعقيب على كلامٍ كهذا، مغلّفٍ بقشورٍ خادعةٍ من الوجاهة، لن يذهب فقط إلى أن الحديث هذا كله يجري بشأن مؤسّساتٍ إعلاميةٍ تتبع بلداً لا تحظى فيه الحرّيات، ومنها حرّيات الرأي والتعبير والإعلام، بمكانةٍ وأولويةٍ عاليتيْن، بل أيضاً إلى أن القوانين المعمول بها في المملكة (وغيرها) لا تُجيز رمي يحيى السنوار وإسماعيل هنيّة بالإرهاب (ولا أسماء أخرى في التقرير الشنيع)، ليس لأن حركة حماس غير مصنّفة إرهابية في المملكة (ولا في أي بلدٍ عربي)، بل أيضاً لأن تجرّؤاً كهذا يُجيز لأيٍّ منا مقاضاة "MBC" على تعسّفها، سيّما وأن التقرير الساقط ذهب بعيداً في اقتراف جرائم الشتم والقدح والإساءة.
الأكثر أهميةً من هذه الاعتبارات المحض قانونية، ناهيك عن الأخلاقية الصّرف، افتقادُ أدنى حسّ بالمسؤولية، المجتمعية والإنسانية والوطنية، فإذا كان لأي وسيلة إعلامٍ حقّها في أن تكون لها اجتهاداتُها، فإن هذا لا يسوق إلى اتّساقٍ ظاهرٍ ومنكشفٍ، تبدو عليه تقارير القناة موضوع الضجّة أخيراً، وشقيقاتٍ لها، مع المرويّات الإسرائيلية في غضون جرائم حرب مشهودة، فإذا كان لهذه القنوات، السعودية، مواقفها الخاصة من حركة حماس، بل من عملية 7 أكتوبر نفسها، فهذا لا يجيز لها أن تتجنّد، فيما يشبه الحملة المنظّمة، ضد الحركة الإسلامية المجاهدة، ما دامت هذه القنوات تصنِّف نفسها إعلاميةً وإخباريةً، وليست منصّات سياسية.
مفجعٌ وشديد الإيلام أن فضائياتٍ (وصحفاً أيضاً)، ذات تمويل سعودي أهلي أو غير أهلي، وتبثّ (وتطبع) من داخل المملكة، تتقاطع، وبتماهٍ كبير، مع إعلام الصهاينة في دولة الاحتلال وغيرها، في محتوى مضامينها، في لحظةٍ بالغة القسوة على الفلسطينيين واللبنانيين، من دون أدنى احترام للوعي العربي العام، وللوجدان العربي المحبط. نراه مفجعاً ومؤلماً لأن للمملكة موقعَها الوازن في أمّتها، ولأن المتوقع منها كثير، وهي قادرةٌ عليه، في الفضاء الإعلامي وغيره. ولذلك، يُؤمل أن يكون التحرّك الرسمي ضد "MBC" تأشيرةً إلى تغييرٍ مرتقب، ملحٍّ وشديد الوجوب، في أداء هذه المحطّة ومثيلاتها. والمأمول أن يبلغَنا، لاحقاً، أن المسؤولين في هذه القناة عوقبوا بما هو مستحقّ على الفعلة الشنيعة، لترتدع قنواتٌ أخرى، فتتوقّف عن ارتكاب ما تسمّيه إعلاماً، فيما هو إسنادٌ لأعداء الأمة في ظرفٍ شديد الصعوبة.