استفتاء الدّستور في الجزائر .. مصداقيّة المرحلة المقبلة
صرّح الوزير الأوّل الجزائري (رئيس الحكومة)، عبد العزيز جراد، وهو يزور ولاية (محافظة) داخلية، إنّ للدولة نيّة صادقة في التّغيير، وهو ما يُراد هنا تقييمه على ضوء مشروع التّعديل الدّستوري المعروض على الاستفتاء الشعبي في الأوّل من الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني). وبما أنّ السياسة فنّ الممكن، وبما أنّ ظروف التّوعية وشرح مضامين المشروع الدّستوري تجرى، على قدم وساق، فإنّ المهم والحيوي، بالنسبة للجزائريين، هو التّفكير في المرحلة المقبلة، كيف نتصوّرها والأمور التي يجب أن تكون الفيصل في مصداقية أنّ ما يجرى الآن هو الحتمي والضروري لإحداث القطيعة مع "العصابة" والفساد؟ الجواب بسيط، بساطة المقاربة التي عُرضت علينا لإقرار تعديل دستوري جديد، والرّهان هو في البحث عن مقارباتٍ لتقييم مصداقية المرحلة المقبلة من خلال نتائج ما يتمّ القيام به، الآن، أي تلك النّصوص البرّاقة وتلك الخطب الرّنانة، في إقناع النّاس بايجابية المقاربة ومسار المستقبل الذي نحن مقبلون عليه، بعد الاستفتاء.
هل يمكن للنصوص البرّاقة والخطب الرّنانة، إقناع النّاس بايجابية المقاربة ومسار المستقبل الذي الجزائريون مقبلون عليه، بعد الاستفتاء على الدستور.
لن تعرّج هذه المقالة على أجواء الحملة الاستفتائية، بل ستحاول التّركيز على الغامض في هذا المشروع، من حيث تحميل بعض المواد مضامين غير واضحة، أو قابلة لأكثر من قراءة، ما سيفتح الباب، واسعاً، أمام الأخذ والرّد والجدال، في مقبل الأيام، بشأن مسارات إعمال تلك المواد، لأنّ أكثرها يتحدّث عن مؤسّسات رقابية كثيرة (المحكمة الدستورية، مجلس المحاسبة، السّلطة الوطنية المستقلّة للانتخابات، السّلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته) ستحول دون أداء غرفتي البرلمان عملهما التّشريعي والرّقابي على أحسن ما يُرام. كما يعطي لبعض المؤسّسات المهمّة والحيويّة أدواراً استشارية (المجلس الإسلامي الأعلى، المجلس الأعلى للأمن، المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المرصد الوطني للمجتمع المدني، المجلس الأعلى للشباب، المجلس الوطني للبحث العلمي والتكنولوجيات والأكاديمية الجزائرية للعلوم)، وهو ما يقلّص من مؤشّر أداء تلك المؤسسات، لأنّ بناء المرحلة المقبلة يعتمد على إعادة الحياة إلى تلك المجالات بأدوار حقيقية، وليس استشارية على غرار ما كان عليه كثير منها في عهد الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة. ويعود ذلك إلى اعتبار أنّ اقتصارها على لعب أدوار استشارية سيمنعها من إحداث القطيعة مع ممارسات الماضي، وخصوصاً على مستوى الخلط بين المال الفاسد والسياسة أو محاربة الفساد، بكلّ أشكاله، وأينما وُجد، إضافة إلى المواد عن الأغلبية الرّئاسية والعنوان الذي ستحمله الحكومة، آنذاك، بين وزير أول أو رئيس حكومة يترأسها، وفق نتائج الانتخابات، وهو ما يعيد إلى الأذهان احتمال إحياء مقاربة التحالف الرئاسي الذي سيطر على المشهد السياسي في مؤسّسات النّظام السّابق، إن لم تكن في إدراك النّظام الجديد، فهو احتمال في إدراك الموالاة التي عادت، بقوّة، في حملة الاستفتاء، وكأنّها تجدّد نفسها، مرّة أخرى، في إطار المؤسّسات الجديدة المرتقب انتخابها أو إنشاؤها.
لماذا نتحدّث عن الغموض في نصٍّ تمّ إعادة النّظر فيه مرّتين بعد تنقيح المسودّة الأولى التي نظر فيها المجتمع المدني، الشخصيات السياسية، الجمعيات والأكاديميون، وقدّم جميعهم، بشأنها، تعديلاتٍ تمّ الأخذ ببعضٍ منها، في حين تمّ إدخال بعض التّغيير على النّص الأوّل؟ هذا هو المحك ورهان المرحلة التالية للاستفتاء، إذ إن الجميع ينتظر تدارك تلك المؤاخذات في القوانين العضوية التي ستصدر تباعاً، واضعة التفاصيل بشأن عمومياتٍ تضمنها نصّ المشروع المعروض للاستفتاء.
لماذا نتحدّث عن الغموض في نصٍّ تمّ إعادة النّظر فيه مرّتين بعد تنقيح المسودّة الأولى التي نظر فيها المجتمع المدني، الشخصيات السياسية، الجمعيات والأكاديميون؟
طبعاً، حتى من سينتخبون بنعم على المشروع الدّستوري، أبدى بعضهم تحفظات، ويرون بأنّ النّص لم يرق إلى المبتغى. وبالتّالي، سيتطرّق النّقاش الذّي سيتلو إقرار المشروع إلى تلك القوانين العضوية (نصوص قانونية تفصّل مقاربة التّطبيق للنصوص الدستورية) على غرار طبيعة الحروف التي ستكتب بها اللّغة الأمازيغية (العربية أم اللاتينية)، مقاربة الفصل بين المال والسياسة في قانون الانتخابات الجديد الذي يتمّ تحضيره، حالياً، من دون أن ننسى أنّ تلك القوانين ستعمل على رفع المخاوف بشأن احتمال عودة التّحالف الرّئاسي مع المادة التي تحدثت عن مسمّى المسؤول الأول عن الحكومة بإدراج مفهومين، وفق نتائج الانتخابات، وزير أوّل أو رئيس للحكومة، وهو الأمر الذي لا يمكن رفع لبسه إلّا بتوضيح أنّ الأمر يجب أن يجرى بشأنه اللّجوء إلى المحكمة الدستورية التي ستفتي في ذلك باعتماد مفهوم واحد، ليس إلّا، حتّى يزول الخوف من احتمال إحياء المشهد السّياسي السّابق، وتداعياته على تكريس الاستبداد وبروز قوى غير دستورية، كما حدث قبل 2019.
ولا يمكن أن يحدث ذلك إلّا بقانون عضوي ينظّم الحياة الحزبية، ويعيد إلى المعارضة معناها السياسي، بعيداً عن تلك الممارسات التي تتيح توفّر ظروف الخلط بين المال الفاسد والسياسة، بل تعمل على شراء الحصانة البرلمانية، وهو ما شهدناه في العشريتين السابقتين، إضافة إلى ما يعرف بالسياحة السياسية، أي الانتقال بين حزب وحزب آخر، بعد الحصول على مقعد برلماني، كما يجب أن يتضمّن القانون الانتخابي المنتظر المقوّمات التي تحكم الترشّح، شروط الاقتراع وتحديد الظروف التي تفضي إلى إجراء انتخابات نزيهة ونظيفة، بما يكفل عودة السيادة الشعبية، حقيقة لا مجازاً، وبما يكفل، أيضاً، تمثيلية حقيقية لتلك السيادة، بما يسهل مهمّتي التّشريع والرّقابة لعمل المؤسّسات وصرف المال العام.
لا يهمّ أن تختلف بشأن الدّستور، بقدر ما يهمّنا التّركيز على منظومة الحكم التي يجب أن تعي دروس العهد السابق
كذلك لا يجب أنّ نغض الطّرف عن مادّة بعينها (المادة 65) التي تشير إلى سهر الدولة على حياد المؤسسات التربوية والحفاظ على طابعها، ذلك أن الجميع يتذكّر المعركة الشّرسة التي قامت (وما زالت قائمة) بين تياري العربية والفرانكفونية في إصلاح المنظومة التربوية، بل وطرح مسائل متعلّقة بالهوية الوطنية في بعض المقرّرات الدراسية، ما يعني أنّ الدولة تسهر على منظومة هوية، وجودة وتواصل معرفي، وليس على حياد المؤسّسات التربوية، لأنّ تلك المهمات من صميم التربية والتعليم في العالم المعاصر لإنجاز التطور في إطار من الحفاظ على الذّات.
هناك مجال آخر علينا الإشارة إلى أهميته كونه سيفاً ذا حدّين، حيث يسعى الدّستور المعروض للاستفتاء إلى ترقية دور المجتمع المدني، ومنحه أدواراً مهمة. لكن، وهذا هو المطلوب حقاً، ليس على حساب أدوار المؤسسات التي تلعب دور الوساطة بين المجتمع وأجهزة الدولة، على غرار الأحزاب أو مؤسّسات الرّقابة التي أُعطي لبعضها دور استشاري فقط، لأنّ حجّة عدم قيامها بالدور المنوط بها، سابقاً، لا تعود إلى مقاربة عملها، بقدر ما يكون ناتجاً عن الأجواء التي كانت تعمل فيها وتطهيرها من النّخبة التي كانت تمارس ذلك الخلط بين المال الفاسد والسياسة، بالنّسبة لنخب أحزاب الموالاة والمعارضة، معاً، وتغيير القوانين التي كانت تقصر عمل مؤسسات الوساطة على لعب أدوار استشارية، إضافة إلى إدخال تغيير شامل لمعايير اختيار الكفاءات التي تقوم على إدارة تلك المؤسسات، حتى لا نقع في نفس ما شهدناه في العهد السّابق.
يسعى الدّستور إلى ترقية دور المجتمع المدني، ومنحه أدواراً مهمة. ليس على حساب أدوار المؤسسات في الوساطة بين المجتمع وأجهزة الدولة
لا يهمّ، بالنّتيجة، أن تختلف بشأن الدّستور، بقدر ما يهمّنا التّركيز على منظومة الحكم التي يجب أن تعي دروس العهد السابق، وأن تعمل على تفادي تكرار الأخطاء التي ستعمل على غرسنا في الوحل والحؤول دون ترقية المواطنة، من ناحية، ورفع تحدّي بناء مشروع منظومة حكم جديدة، من ناحية أخرى.
هنا، وهنا فقط، يكون التقييم لمضمون المرحلة المقبلة، في التّجسيد الفعلي لذلك التّغيير، والمحك والرّهان المنتظرين والجميع، سواء قبل بالدستور أو رفضه، صوّت أم لم يصوّت، فإنّ اللحظة السياسية، عند إقرار هذا المشروع، تكون قد رتّبت نفسها على عقارب متابعة كل تفصيلةٍ، ليكون المشهد جديداً حقاً، بدون نخبة سياسية سبق تجربة مقاربتها للحكم، ومن دون ممارساتٍ سبق التنديد بها، ويجب أن تخلفها أخرى، مبتكرة وإبداعية، تعيد للسيادة الشعبية دورها وللمواطنة حقّها، كما يمكن لذلك أن يعيد، حقّاً، أيضاً، الجزائر لأبنائها، بعيداً عن الفساد، والمحسوبية والعشائرية، بسعي أكيد وحثيث نحو تغليب معايير الكفاءة، والنجاعة وسبل الأداء المنتج لإيجاد الجزائر القوية في جوارها وفي إقليمها.