اقتلوا البلد كلها
"اقتلوا البلد كلها".. عبارة الفنان "المرعب"، محمود مرسي، في فيلم "شيء من الخوف"، حين أخبره رجاله أن "البلد كلها" ثارت عليه بسبب قتله ابن أحد خصومه، ممن لا يعترفون بشرعية زيجته من "فؤادة"، التي هي "مصر" في أحد التأويلات. لم يكن محمود، ضحية عتريس الذي أشعلت دماؤه الثورة، سبقه كثيرون. كما لم يكن القتل جريمة الطاغية الوحيدة، كان قاتلا، ناهبا، فاجرا، في كل ما يفعل، وكانت جريمة واحدة من جرائمه كفيلة بإشعال ثورة، لكن الثورة لم تشتعل إلا مع دماء محمود، العريس، المقتول ليلة زفافه، هنا توفّرت أسبابها، ولم يبق سوى سقوط جدار الخوف، وحين زال، زال معه الطاغية، واحترق، وساهم في ذلك رجاله أنفسهم، الذين أمرهم بقتل "البلد كلها"، فردّ أحدهم: "اقتلها أنت لو تقدر".
هل للثورة موعد محدد؟ دعوات من مجاهيل أو معلومين على "السوشيال ميديا"، ويسقط النظام؟ وارد، ولكن في حالة واحدة إذا كان النظام ضعيفا، لا شعبية له، لا حلفاء محليين أو إقليميين أو دوليين، لا إعلام قويا يحمله إلى الناس أو يدافع عنه، لا جيش أو شرطة يحميانه، لا أجهزة استخباراتية توفر له المعلومات، وتقدّم له تقارير حالة الشارع، لا موهبة لديه في مخاطبة الناس والتأثير فيهم، لا شيء على الإطلاق. من هنا، يمكن تنحيته بسهولة، بقرار، بـ"إيفينت". أما الثورات ضد الأنظمة القوية، الراسخة، العميقة، فهي شيء آخر. "الثورة خلل في النظام"، وحين يصل هذا الخلل إلى منتهاه، يأتي موعد الثورة، مثل الموت، فإذا جاء أجلُهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وتسعة أعشار أسباب الثورة تأتي من النظام، أداءاتُه، سياساتُه، خطاباته، فشله، جرائمه، ثم يأتي دور معارضيه، أو مقاوميه، وجهدهم على الأرض. هكذا كانت ثورة يناير، التي تراكمت أسبابها طوال 30 عاما من انحطاط نظام حسني مبارك (فين أيامه؟)، وملفات فساده التي لم ينكشف أغلبها بعد. وعلى هامش هذه الأسباب، كان "مجهود" الحركات الاحتجاجية، "كفاية" وأخواتها، ثم ثورة تونس، التي أزاحت "بن علي" فكانت "النموذج"، وأزالت حاجز اليأس، الأخطر من الخوف، ورحل مبارك.
يتعامل النظام المصري الحالي مع دعوات التظاهر، أيًا كان حجمها أو مصدرها، بجدّية شديدة، تأمينات وتحصينات وملاحقات وقبض على أبناء ناشطين وآبائهم وإخوتهم ومن يدعمهم ولو بكلمة، أو بوست، أو تغريدة، ليس لأن الدعوات جادّة، أو خطيرة. بالعكس أغلبها، إن لم يكن كلها، عشوائية وبلا ظهير سياسي. ولكن لأن أغلب أسباب ازاحة النظام موجودة، وكامنة في النظام نفسه، أغلب أسباب الانفجار موجودة، أغلب أسباب نجاح ثورة أو انتفاضة شعبية، أو حتى انقلاب عسكري يؤيده ملايين المصريين مثل يوليو 1952، أو يوليو 2013، حاضرة، ومصدرها الرئيس هو "الرئيس".. جرائمه، ضحاياه من القتلى والمختفين قسريا والمعتقلين والمشرّدين في بلاد الله هربا أو خوفا، قراراته العشوائية، خطاباته الكوميدية. مشروعاته الفاشلة، هوسُه، غروره، تصوّراته عن نفسه باعتباره نصف نبي، اختاره الله، أرسله الله، ألهمه الله، كَلّمه الله، فَهّمه الله، ظَهره الله، لا يقدر عليه أحد، وآثار ذلك "الجنون" على حياة المصريين، من فقرٍ تحوّل إلى مشروع قومي، وإذلال يومي تحول إلى روتين أمني، وقتل وقبض وخطف عشوائي، وقطع طريق المواطنين في محيطات ميادين التظاهر وانتزاع هواتفهم وتفتيشها والبحث عن اسم السيسي في رسائل مسنجر وواتساب، ناهيك عن تراكم الديون والمرارات السياسية والانقسامات الاجتماعية والخصومات والعداوات والثارات، وغليان الشارع وترقّبه فرصة "حقيقية" للخلاص من ذلك كله.
مرّة أخرى، الخلل قائم، والانفجار وشيك، والثورة محتملة ما استمرّت سياسات العافية والبلطجة و"وهو كده إذا كان عاجبكم"، والشرارة، دائما، عفوية ومفاجئة وخارج الحسابات، حسابات النظام وأجهزته.. ومعارضيه، ومحمود (شيء من الخوف)، هو بوعزيزي (تونس)، وخالد سعيد (مصر)، وفي صحيفة سوابق السيسي ألف محمود، وفي سياساته الحالية، إذا استمرّت، تكمن نهاية حكمه ومن معه، وغدا قريب.