الأثمان الباهظة لـ"شرعيَّة إسرائيل"
منذ نشوء دولة الاحتلال في فلسطين، وهي تستفيد، وتوظِّف التشكيكَ في شرعيَّة وجودها لصالحها؛ وذلك لاستقطاب مزيدٍ من التعاطُف الدولي والعالمي، وحتى على مستوى النُّخَب والشعوب؛ لدعم مواقفها وسياساتها التي كثيرًا ما تكون مُفْرِطة في ردودها، وفي عدوانيَّتِها، كما هو الحال، في هذا العدوان الإباديِّ الذي تتعرَّض له، غزة، ويستهدف أهلها، بعد عملية طوفان الأقصى، وإثْرَ آثارها الصادمة الصاعقة، دارت تصريحات المسؤولين، في دولة الاحتلال، أنهم، الآن، في حالة دفاعٍ عن وجودهم، ومستقبلهم.
صحيحٌ أن دولة الاحتلال لا تحبُّ، ولا قادتُها، أنْ تبقى تحت سؤال الشرعيَّة، بين موافقةٍ ورفْض، وبين إثباتٍ ودحْض، وكأنها مشروع دولة، غير ناجزة؛ لأن ذلك يعني خلخلة الأساس الذي تقوم عليه، باستمرار، لكن هذه التساؤلات حقيقةٌ قائمة، ومستمرَّة، لا يمكن الفِرار منها؛ لكون هذا الكيان قام على أنقاض شعبٍ آخر، وعمل على طمس بلده؛ فلسطين، بذرائع توراتية مُدَّعَاة، ولأن إقامتها كانت ضمن مشروع غربيّ، منذ وعْد بلفور، وقبله، نابليون بونابرت، في سياق حمْلته، على مصر، والمنطقة، حيث جاء في رسالته (وجَّهها إلى "الإسرائيليين عام 1799) :" من نابليون بونابرت القائد الأعلى للقوَّات المسلَّحة للجمهورية الفرنسية، في أفريقيا وآسيا، إلى ورثة فلسطين الشرعيِّين. أيُّها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان أنْ تسلبه نسبَه ووجودَه القومي، وإنْ كانت قد سلبته أرضَ الأجداد فقط (...) انهضوا بقوَّة أيُّها المشرَّدون في التِّيه، أمامكم حربٌ مهولة، يخوضها شعبُكم، بعد أن اعتبر أعداؤه أن أرضه التي ورثها عن الأجداد غنيمةً تقسم بينهم، حسب أهوائهم".
هذه المرتكزات، الدينية، والاستعمارية، المعانِدة والمتجاهلة حقائق القانون الدولي المعاصر، الرافض احتلال أراضي الغير بالقوة، ولمبادئ دولية ترسَّخت عن حقِّ الشعوب في تقرير مصيرها، ثم خصوصية فلسطين؛ بشعبها الحيِّ، والماثل، بقوة، ولعلائقيِّة فلسطين الدينية والقومية، (المضادَّة لدولة الاحتلال)، مع العرب والمسلمين، في المنطقة، والعالم، ذلك كله، بالإضافة إلى سلوك هذه الدولة، القائم، منذ أُسِّستْ، على الاستهانة بالدماء، والأرواح، جعَلَ سؤالَ شرعيِّتها، يستمرّ، في كلِّ جولةٍ من جولات الصراع؛ مِن مقاوميها، في فلسطين، والعالم العربي والإسلامي، ومناصري العدالة في العالم، ومِن قادتها ومؤيِّديهم، في دول العالم، وخصوصًا، الغربيّ.
المشروع الاستعماريَّ الغربيَّ المُسمَّى إسرائيل، لا يمثِّل نفسَه، وحسْب، بل إنه أداة استراتيجية، وقاعدة متينة، أضحى دولةً وظيفية، لمصالح الدول الغربية
وعاد هذا التشكيك في شرعيَّة إسرائيل، أحيانًا، عليها بالنفع، ولم يمانع قادتُها ومناصروها في توظيفه؛ إذ يمكن القول، كما جاء في كتاب "اللوبي الإسرائيلي، والسياسة الخارجية الأميركية، لمؤلِّفَيْه: جورج ميرشايمر وستيفن والت، (ترجمة أنطوان باسيل، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2007)، إنَّ "التساؤل بشأن ممارسات اللوبي الإسرائيلي وتشعُّباته قد يبدو لبعضهم معادلة للتشكيك في شرعية إسرائيل نفسها. ولأن بعض الدول لا يزال يرفض الاعتراف بإسرائيل، وبعض منتقدي إسرائيل واللوبي يشكِّكون في شرعيِّتها، فقد يرى كثيرون من مؤيِّديها، حتى في النقد حسن النِّية، تشكيكًا ضمنيًّا، في وجود إسرائيل".
ومن المعروف، المفيد، تذكُّر الفرق المهم بين قوى الاستعمار الأخرى ودولة الاحتلال، في فلسطين؛ أنَّ الأخيرة قد جعلت وجود شعبها، وبقائه، مرتِهنين باستحواذه على فلسطين، إذ لا وطن له، في انتظاره، إن تقرَّر خروجُه ممّا يحتلّ، ثم إنَّ هذا المشروع الاستعماريَّ الغربيَّ المُسمَّى إسرائيل، لا يمثِّل نفسَه، وحسْب، بل إنه أداة استراتيجية، وقاعدة متينة، أضحى دولةً وظيفية، لمصالح الدول الغربية، وفي مقدمها أميركا، في منطقة عربية وإسلامية، تتميَّز باللاثبات، والتقلُّب، الذي قد يطاول الجوانب الجيوإستراتيجية فيها.
وعليه، فدولة الاحتلال متى شاءت، وواتت الظروف، تثوِّرُ هذه الفكرة، وهي خطر وجودها، وبقائها، وهي الفكرة المتّصلة بأصل التعهُّد الغربي الرسمي؛ لتستمدَّ غطاءً يكفي لارتكابها جرائم، تُرضيها، وتسهم في تعزيز وجودها. وفي المقابل، تسهم في تجفيف وجود الفلسطينيين، ومنابع حياتهم، كما حرص رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، عقب الضربة التي تلقَّاها، في عملية طوفان الأقصى، إلى حشْد التأييد الدولي الواسع، بِوُسْع ما نوى؛ من تدمير لكلِّ المرافق والمساكن الممكنة في قطاع غزّة، مِن أبراج سكنية وأسواق ومستشفيات ومدارس، على رؤوس الناس، المدنيِّين؛ الأطفال والشيوخ والنساء؛ سيْرًا نحو الهدف الإستراتيجي في تهجيرهم، أو تهجير أكبر عددٍ ممكن منهم، مشفوعًا بنزعاتٍ انتقامية لا ترتوي من الدماء، من دون أن يكون لذلك صلة بأيِّ معنى عسكري، رَدْعِيّ، أو احترافي، دالٍّ على كفاءة قتالية، وروح الجُنديَّة.
دولة الاحتلال، مع كل الأثمان البالغة، لكلِّ الأطراف، بمَن فيهم هم أنفسُهم، لا يقوم مشروعُها على فكرة الإيمان بالحلول الوسط، أو على مراعاة الطرف الآخر
وليست هذه المرِّة الأولى؛ فقد هاجمت إسرائيل غزّة، عام 2009. وهاجمت غزّة، عام 2012، وهاجمتها، عام 2014. وهاجمت إسرائيل غزّة، في عام 2018. وفي هذه الهجمات الأربع السابقة، قتلت إسرائيل آلاف الفلسطينيين، ومئات الأطفال. ووصل عديد ضحايا العدوان الراهن، حتى كتابة هذه السطور، وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، إلى ما يقارب 4500 شهيد، منهم قرابة 1800 طفل، وألف امرأة، غير آلاف المصابين.. فضلًا عن تشريد أكثر من مليون، في ظلِّ عقابٍ جماعي، وبما في ذلك تدابير الحصار الذي تفرضه دولة الاحتلال على دخول الوقود والغذاء والكهرباء إلى قطاع غزّة المنكوب، والاستهداف العشوائي للمدنيين؛ الأمر الذي يشكِّل جرائم حرب، بموجب القانون الدولي.
ودولة الاحتلال، مع كل تلك الأثمان البالغة، لكلِّ الأطراف، بمَن فيهم هم أنفسُهم، لا يقوم مشروعُها على فكرة الإيمان بالحلول الوسط، أو على مراعاة الطرف الآخر، وهم السكَّان الأصليُّون، وهي، خصوصًا، في هذه المرحلة التي تكشّفت فيها نيَّاتُها، ومخطَّطاتها، ترى ضرورة الانفراد في تقرير مصير الأوضاع، وتقترب، حثيثةً من استهداف ما تبقّى من قضايا جوهرية، كانت أُجِّلتْ، في اتفاقية أوسلو، وهي قضايا اللاجئين والقدس، والحدود والأراضي والمياه والموارد؛ لتعميم الاستيطان والتهويد في القدس والضفة الغربية.
وتنهج دولة الاحتلال هذا النهج، وهي تعلم، ممَّا عاينتْ، وعايشت، خلال صراعها المستمرّ، أنها تواجه شعْبًا، لا يلين صمودُه، ولا يفتُر كفاحُه، مسلَّحًا بإيمانه بحقِّه، ومستندًا إلى عنادٍ، ومصابَرة، وشدّة شكيمةٍ مشهودة، ومتواصلة، على مرّ الأجيال، وإنْ لم نقل إن الأجيال اللاحقة أشدُّ في ذلك، من الأولى، فإنها لا تقلُّ عنها، وهذا في مناطق وجوده، على أرضه، في غزّة، والضفة الغربية والقدس، وفي أراضي الـ 1948. وبعد ذلك، لا تجد إسرائيل نفسها مستفردة بالشعب الفلسطيني، بالمعنيين، الشعوري والتضامُني، على الأقل، إذ يرتدُّ هذا الشعب إلى محيطه العربي والإسلامي؛ أخذًا وعطاءً، بوشائج لا تنقطع، وهي تظهر في الأزمات، كما نشهد، في هذه الجولة بالغة الأهمية والمفصلية من الصراع. فأيّ أثمانٍ تُدفَع، وأيُّ استحقاقاتٍ لا تزال تُطلَب، على طريق هذه الشرعية؛ القائمة على الغصب، والعدوان!