الأزمة المصرية وسيناريوهات الخروج
تبقى الحالة السياسية المصرية شديدة التعقيد، وعلى المتضرّر اللجوء إلى تغيير قواعد اللعبة المستمرة منذ عشر سنوات، مع بعض التكتيكات المحدودة والمدروسة من الإدارة بين حين وآخر، للتعامل مع ضغوط الرأي العام الدولي.
وهكذا ما بين حوار شكلي يهدف إلى الإبقاء على الوضع الحالي كما هو، بتغييب الشعب طرفا فاعلا، واستنزاف طاقات المعارضة المدنية، وإيهامها بأن الحوار يشي بموطئ قدم في الحياة السياسية، حتى لو لم يجر فعلا أو ينعكس في تفاعل حقيقي بين شركاء بما يؤدّي إلى تغيير السياسات الحالية وترشيدها.
وعلى الحركة المدنية وممثليها في مجلس أمناء الحوار الرضا بما يُلقى إليهم من فتات سياسي وأدوات للتسكين وشغل الوقت التي تقوم بها الإدارة المصرية، على شاكلة لجنة العفو التي تقتصر أعمالها على نشر أسماء المخلى سبيلهم من نيابة أمن الدولة بعد الموافقة عليها أمنيا، بعد سنواتٍ من الحبس الاحتياطي، من دون اتهامات حقيقية، ومن دون إحالتهم إلى أي نوع من المحاكمات العادلة.
يستمرّ في الوقت نفسه القبض على آخرين من المشتغلين بالسياسة وأعضاء الأحزاب الشرعية، وبشكل خاص عقب أي دعوة إلى التظاهر، والذي يمتد إلى مواطنين عاديين ساقهم حظهم العاثر إلى الاحتجاز والاختفاء القسري شهورا أو سنوات بسبب تدوينة أو بث مباشر على "فيسبوك" يبثّون فيه بعض أوجاعهم، أو لعرضهم فيديوهات غير مسيسة تستهدف زيادة عدد المتابعين. وبالتوازي، تستمرّ الإدارة المصرية في تبنّي السياسات الاقتصادية والاجتماعية نفسها، وسط انفرادٍ كاملٍ من الرئاسة، بما تحمله من أخطاء ونتائج كارثية من دون مراجعة المؤسّسات الأخرى المهمّشة والمختارة بعناية. وتتجاهل عشرات المطالب التي سبق أن قدّمتها الحركة المدنية، والمفترض أن تناقش داخل لجان الحوار ومحاوره الثلاثة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
يستمرّ في مصر حاليا القبض على بعض المشتغلين بالسياسة وأعضاء الأحزاب الشرعية، وبشكل خاص عقب أي دعوة إلى التظاهر
وفي الوقت الحالي الذي يقترب فيه موعد الانتخابات الرئاسية، لا يبدو أن هناك خريطة طريق تسير وفقا لها أحزاب المعارضة، وهناك معلوماتٌ بوجود خلافات داخل جسم الحركة المدنية، ويبدو أن قوامها الرئيسي يسعى إلى الاستمرار في هذا الحوار، بغض النظر عن التسويف المتعمّد في انعقاد فعالياته، ورفض أي مقترحات تخصّ الانسحاب أو تبنّي مطالب كبيرة من نوع إجراء انتخابات رئاسية مبكّرة.
ولا يظهر ما يشير إلى إمكانية طرح هذه الحركة مرشّحين في الانتخابات المقبلة، في ظل حالة التضييق على الشارع السياسي والحزبي، ورفض كثير من مطالبها بالإفراج عن آلاف من سجناء الرأي. وفي ظل عجز المعارضة في الداخل عن مقاومة سياسات الإدارة الحاكمة، بات قطاع شعبي كبير يحمّلها مسؤولية هذا العجز، بينما يتشدّق النظام أمام الدول الغربية والولايات المتحدة بدعوته إلى الحوار حتى وإن ولد ميتا، والذي لا يستهدف منه تقديم أي تنازلاتٍ للتغيير من مساره الحالي.
وهناك عدة أسئلة رئيسية يمكن طرحها في هذه الأوضاع المعقّدة، تتعلق بمدى استمرار الوضع الحالي كما هو، أو حدوث سيناريوهات أخرى، وهل يمكن أن تشهد الانتخابات الرئاسية 2024 أي تغيير درامي في الساحة السياسية، وهل يمكن إجراء انتخابات مبكّرة؟ وهل هناك تصوّر آخر من الحركة المدنية يساعد على تهيئة الوضع لتغيير سياسي منظّم؟ وهل يستمر الوضع الاقتصادي المتردّي من دون ردود فعل شعبية قد تتسع إلى مدىً أبعد لتصبح رقما في تغيير المعادلة القائمة؟
مخاوف من فوضوية الحراك، خصوصا إذا انضمّت إليه قطاعات شعبية كبيرة، وفي مواجهة عنف أمني دموي من جهاز الدولة
ويمكن القول إن هناك عددا من السيناريوهات التقليدية المطروحة، أهمها: أولا، سيناريو الانفجار الشعبي، وهذا السيناريو يدعمه ما يحدُث ولا يزال من تخفيض العملة الوطنية واستمرار سياسة القروض وبيع الأصول الاقتصادية الرئيسية، ويتّضح هذا بجلاء على وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى حدوث حالات لهجمات جماعيةٍ لمواطنين على معارض سلع تموينية والاستيلاء على هذه السلع، وسطو على أموال أحد مكاتب البريد. وهو يقترب من مفهوم ثورة الجياع. ويعيب هذا السيناريو أنه يتم بدون قيادة سياسية تقف وراءه وتحدّد أهدافه. وعلى الرغم من أنه قد يهيئ الساحة لتغيّر ما على المدى القصير، الا أن هناك مخاوف من فوضوية هذا الحراك، خصوصا إذا انضمّت إليه قطاعات شعبية كبيرة، وفي مواجهة عنف أمني دموي من جهاز الدولة.
ويمكن أن نطلق على السيناريو الثاني التغيير من داخل النظام، وقد يحدُث بسبب تخلي الأطراف الإقليمية عن دعمها نظام عبد الفتاح السيسي، وما كانت توفّره من دعم سياسي ومالي سابق، برفع يدها بشكل كامل، أو بربط هذا الدعم بتنازل الدولة عن الأصول الرئيسية، وهو ما يؤدّي إلى زيادة التذمر والاحتقان الشعبي الذي يضيف دعما إلى السيناريو الأول.
وقد ترى بعض المؤسسات التابعة للدولة العميقة استحالة استمرار هذا الوضع السياسي والاقتصادي، وبالتالي، تمارس ضغوطا داخلية لتغيير رأس النظام وإبعاده عن المشهد كما حدث مع دولة حسني مبارك، من خلال إجراء انتخابات رئاسية مبكّرة، يتوفر فيها بعض ضمانات الحد الأدنى، مع ترشّح واجهة مقبولة شعبيا من داخل الدولة، ولا يشترط أن تكون عسكرية. ويمكن التعاون مع الحركة المدنية لتنفيذ خطواتٍ معينةٍ في هذا المسار، من خلال التقدّم بمرشحين في تلك الانتخابات، إلى جانب مرشّح الدولة.
يؤكّد درس التاريخ استحالة استمرار أي نظام في ظل الاعتماد الوحيد على مؤسّساته الأمنية، وتجاهل كامل لرغبات الشعب
السيناريو الثالث هو استمرار النظام الحالي حتى عام 2024 مع تقديم تنازلات سياسية، واجراء انتخابات برلمانية وفق قانون انتخابي يسمح بالتمثيل النسبي لأحزاب المعارضة، وإخراج بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين من السجون بشرط ابتعادها عن اللعبة السياسية، ووقف بعض السياسات الاقتصادية الحالية التي تنتقدها أطرافٌ كثيرة في المعارضة. ويتوازى ذلك مع انعقاد جلسات الحوار فعليا، ويكون واجهةً لإصدار قرارات سياسية يتم التوافق عليها، تسمح بصيغةٍ تقترب من الصيغة التي وصل إليها مبارك عام 2005 بإجراء انتخابات رئاسية تعدّدية موجّهة.
السيناريو الرابع، استمرار النظام الحالي بسياساته وتصوراته نفسها للوضع القائم وهيمنة المؤسسة العسكرية بشكل كامل بما يحمله من عسكرة كاملة لأجهزة الدولة. وهذا سيناريو صعب، وقد يؤدّي، في حال استمراره كما هو بدون تغيير، إلى تزايد في احتمالية حدوث سيناريو الانفجار الشعبي.
في النهاية، لا بد من باب للخروج من المأزق السياسي والاقتصادي الذي تعيشه مصر في أسوأ عصورها السياسية بوجود تهديداتٍ رئيسيةٍ لأمنها القومي ببناء سد النهضة، والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وتأجير بعض مرافقها الحيوية مثل قناة السويس والموانئ البحرية، وهيمنة المؤسّسات الدولية على الاقتصاد المصري... ويؤكّد درس التاريخ استحالة استمرار أي نظام في ظل الاعتماد الوحيد على مؤسّساته الأمنية، وتجاهل كامل لرغبات الشعب.