الأسد "دكتور جيكل" في صورة عائلية

19 ديسمبر 2024

بشار الأسد وعائلته في حلب (8/7/2022 حساب الرئاسة السورية السابقة في فيسبوك)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

تعود الصورة إلى عام 2022، وخلال زيارة الرئيس المخلوع إلى حلب، يتوسّط فيها زوجته وابنته الوحيدة زين، بينما يظهر نجلاه حافظ وكريم إلى يسار عقيلته. يرتدي بشّار الأسد بدلة سوداء بدون ربطة عنق، بينما تظهر الزوجة والأبناء بملابس عادية، وإنْ كانت فاخرة بعض الشيء.

تظهر أسماء في مركز الصورة: امرأة جميلة، طويلة القامة، ترتدي بنطالاً، وتضع يدها في جيبه، بينما تشير بإصبعها كأنها تشرح شيئاً. الأنظار، بل الانتباه للدقة، يتّجه إليها، وخاصة عيون النجليْن، بينما يبدو من كان رئيساً في حالة إصغاء.

تبدو أسماء متسيّدة، إن لم نقل مسيطرة أو مستبدة. ورغم ذلك، تقدّم الصورة لك عائلة ثرية، منسجمة مع طبقتها، حيث يتراجع الرجل أمام العامّة لصالح المرأة، ويلتفّ الأبناء حول الأبوين مع انحيازٍ لا يخفى إلى جانب الأم، بملابس تليق بجولةٍ على الأقدام، وبتواضعٍ يجهدُ الأب لإظهاره، وهو ما لا تفعله الزوجة التي تطلّ غطرسة الطبقة برأسها في مشيتها وحركة يديْها، حيث ثمة يد في جيب البنطال في دلالة على السيطرة التامة. لكنها ليست مجرّد عائلة صغيرة، ثرية، أنيقة، تزور معلماً تاريخياً، بل الأسرة الحاكمة أكثر من عقدين، في بلد نُكب، وفي مدينة دُمّرت، وفقد الحاكم الشاب الذي يبدو معاصراً بتطرّف، وودوداً على نحو غامض، سيطرته على نحو ثُلث المدينة التي كان يزورها.

نحن هنا أمام "بوتيك" أزياء، بسيطة وأنيقة ومن ماركات عالمية، و"البوتيك" كلمة تعني متجر ملابس، وأظنّها شاعت في سبعينيات القرن الماضي التي شهدت صعود ضابطٍ، لا يبتسم إلا ساخراً، إلى الحكم في بلاده، وحدث أنه أنجب عدة أبناء، كان من بينهم الرجل الذي يتوسّط ابنته وزوجته في الصورة.

لسوزان سونتاغ، وهي روائية أميركية وسينمائية، كتاب عن الصور الفوتوغرافية، حيث عليك أن تحدّق في الصورة جيداً لتسبر لاوعيها، فالصور مثل الكلمات تمتلك لاوعياً قد يكون شائكاً وشقياً، ووحشياً ومخاتلاً، وهو ما ينطبق على صورة الأسد وعائلته الصغيرة. ... لكنك إذا دقّقتَ، ستتساءل لمَ يكون شارع في مدينة كبيرة مثل حلب فارغاً؟ ولن تحتاج وقتاً طويلاً لتعرف أنها في حالة حرب، فعلى يمين ابنة من كان رئيساً مبنى تعرّض للقصف، وفي الخلفية. هناك في البعيد... مبنى آخر تعرّضت أطرافه للتدمير، ما يفسّر خلو الشارع الذي أُفرغ من المارّة، والرجل الذي في الخلف رجل أمن يقوم بتأمين جولة السيّاح الذين جاؤوا من دمشق لالتقاط الصور التي تقول بخشونة إننا هنا ولم نُهزم. ... لذلك علينا أن نتطابق مع صورة أخرى يراها القوم خلف البحار، للعائلة المعاصرة المتآلفة، السعيدة التي يمكنك أن تصادفها في الأحياء الفاخرة وفي الفنادق والمتاجر التي تعمل فيها نسوةٌ جميلاتٌ يتحدثن من أطراف أنوفهن. ... علينا أن نتطابق مع صورة "الدكتور جيكل".

كتب الروائي روبرت لويس ستيفنسون روايته القصيرة (نوفيلا) "دكتور جيكل ومستر هايد" عام 1886. فعل ذلك قبل فتوحات فرويد الباهرة في التحليل النفسي، وعن المستويات الثلاثة التي يتحرّك فيها وعي الإنسان. ليس ثمّة ثلاثة مستويات لدى ستيفنسون، بل هناك "شخصان" على الأقل في داخله، منفصلان، على طرفي نقيض، هما الطبيب مفرط الطيبة "الدكتور جيكل" والشرير، مطلق الشر، "مستر هايد"، وبينما يكون الأول طويل القامة عفيّ الجسم مثل الرجل الذي تركناه في الصورة مع عائلته، فإن الآخر قزم، بشع، شرّير في الحدود القصوى، وهو بالمناسبة "آخر" بشّار الأسد أيضاً.

لم يكن ستيفنسون محللاً نفسياً، بل كاتباً كبيراً حدّق طويلاً في عتمة الإنسان، ولم يقتصر اكتشافه على أن في الإنسان كائنيْن اثنيْن، بل كان هذا ما قدّمه فقط، مع إشارة ذكية، أن الإنسان سيُعرّف لاحقاً باعتباره "مجرّد هيكل يقطنه سكّان متنوّعون ومتنافرون ومستقلون".

كثيرون كانوا يتصارعون في داخل السيدة أسماء التي تُتقن عدة لغات أجنبية ووُلدت في لندن، وإلا فما الذي يجعل سيدةً تبدو على هذه الرقّة تختزن كل هذا الشر والرغبة في إفناء الآخرين. وإذا كان هذا شأنها فالوضع أكثر تعقيداً في حالة زوجها، الذي وجد نفسه، بالمصادفة، رئيس شعبٍ عريقٍ، فما كان منه إلا أن أخرج مسدّسه وبدأ بإطلاق النار.

الصورة أعلاه تقول ذلك لو تمعّنت فيها.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.