صيدنايا... مسخ الكائنات

12 ديسمبر 2024
+ الخط -

تقع بلدة صيدنايا الصغيرة، بسكّانها المسيحيين في غالبيتهم، في محافظة ريف دمشق، وهي بلدة وادعة تشبه البلدات النائية في الريف الأوروبي التي يمكن أن نقع عليها في الأفلام الأجنبية، حيث البيوت تُبنى في المناطق المرتفعة، والطرقات حجريةٌ وضيّقة، وثمة رهبانٌ يتمشّون ببطء وهم يشبكون أيديهم خلف ظهورهم.

كل شيء آمن، هنا في الصور، وهو ما كان يُفترض أن ينسحب وينطبق على صيدنايا، مثل بلدات كثيرة صغيرة في المشرق العربي، حيث ثمّة ماء في الآبار على أطراف القرى والبلدات، وبساتين عنب وكرز ورمّان إذا شئت.

كان يمكن للبلدة أن تكون مزاراً مسيحيّاً، أو مَصْيَفاً يؤمه السياح للتمتّع بطقسها البديع في الصيف، أو حتى مكاناً مفضّلاً لمخرجي أفلام الحقبة المسيحية الأولى، أو حتى مجرّد بلدة يهاجر شبّانها إلى الغرب ويبقى كبار السن فيها، يرعون الجداء أو يُنتجون الألبان، فيصيبون بعض شهرة وثروة، بينما تتصاعد الأدخنة من مداخن بيوتهم الريفية المتناثرة والآمنة.

لكنك في سوريا- الاسد، والتعبير مهينٌ إذ يطوّب بلداً بأكمله، بتاريخه وتنوّعه، بناسه أحياءً وأمواتاً باسم عائلة صغيرة، عميدُها مجرد ضابط في الجيش قفز إلى السلطة كما فعل سواه في المنطقة العربية، وتحكّم في مصائر ناسِها، فلسببٍ لا نعرفه حالياً، اُختيرت أراضٍ على أطراف البلدة لبناء سجنٍ عليها، فصودرت من أصحابها، وبُني عليها سجن صيدنايا الذي بدأ باستقبال زوّاره عام 1987. ومنذ ذلك الوقت، أُزيحت البلدة جانباً وتقدّم السجن، فقد جرى اختطافها وسلبها اسمها، فما عادت المنطقة تُعرف بريفيّة أجوائها ومسيحيّة سكّانها، بل باعتبارها سجناً ترتعد الفرائص من مجرّد ذكره ولو همساً.

في "مسخ الكائنات" لأوفيد (ترجمة ثروت عكاشة)، وهو كتابٌ في الأساطير، تمسخ الآلهة بعض البشر، فيتحوّلون إلى كائنات أخرى، مسوخاً تتجوّل في الأرض، الأمر الذي ينطبق على الحالة السورية في عهد عائلة الأسد المديد والمؤلم كقدر إغريقي باطش، ليس بمقدورك تغيير نهايات أبطالها ومصائرهم، وهي مأساوية ودامية غالباً.

انظر وحسب إلى ما فعلته هذه العائلة ببلدة صيدنايا، واسمُها آرامي أصلاً، ويعني "صيد الغزالة" على ما يُجمع كثيرون، ما يعني أنها مكانٌ تعيش فيه الغزلان وتتكاثر ويتم بالتالي صيدها هنا، في هذه البلدة التي تقع على أطراف دمشق.

لقد حوّل النظام بلدة الغزلان هذه إلى أسوأ سجن في العالم. مسخَها، حرفياً ورمزياً إذا عُدنا إلى كتاب أوفيد. ولم يكتف بذلك، بل أمعن في مسخ كل ما يتعلق بها، فمسيحيّة البلدة، حيث تعلو دعوات التسامح، دينياً على الأقل، أُزيحت وأُقصيت قبل أن تُمسخ، فأنت هنا في أرض الانتقام البدائي في أكثر وجوهه بشاعة وعنفاً. هل تتذكّرون "غزلان في غابة الذئاب"؟ الدراما التلفزيونية بواقعيّتها الخشنة التي قاربت فيها رشا شربتجي وفؤاد حميرة ممارسات النظام السوري ورجالاته وأبنائهم؟

لقد مسخ بلدة الغزلان فحوّلها سجناً، المقاومة فإذا هي تعاونٌ وتوطؤٌ مع إسرائيل، فلسطين نفسها فإذا هي اسم لفرع مخابرات ومسلخ للتعذيب، السيادة فإذا هي ارتهان لدول الجوار، المواطنة فإذا هي عبوديّة لبساطير العسكر... إلخ، إلخ، إلخ.

لك أن تتأمّل الصور الجوية لسجن صيدنايا: تصميمه المعماري المذهل، ما بعد الحداثي، لتعرف كيف مُسخ كل شيء في سورية، حتى المعمار نفسه الذي جُرّ من أنفه الحداثي إلى ما قبل التاريخ، حيث البشر تُقتل ثم تُكبَس جثثها وتُحرق في مبنى ابتلع أولاً اسم صيدنايا، بلدة الغزلان، قبل أن يمسخ المعمار نفسه ويسلبه دوره الجمالي ويقصُره على وظيفته البدائية، حيث يُخفي ويحوي الأسرار وأنات ساكنيه، وما هم سوى مواطنين كانوا يُهيّأون للمسالخ والذبح غير الرحيم، ثم الاختفاء تماماً، حيث العُظام تُطحن واللحم الحي يصبح سائلاً لزجاً يتبخّر سريعاً وهو يُحرق في أحد أقسام السجن.

يشبه معمار السجن ما يُعتقد أنها مبانٍ نازية، طائراً عملاقاً من الكونكريت المسلّح يستعدّ للطيران، قاعدة فضائية غامضة هبطت على الأرض بالمصادفة، مفتاحاً لأسرار كونية لا تدريها مثل المسلّات الفرعونية، مسدّساً أو سلاحاً تركه فضائيون غامضون، عضواً يفتضّ الفضاء، وأشياء أخرى مشغولة بذاتها وبالتحوّلات، حيث على الأشياء والمعاني والكائنات كلها، بشرية أو سواها، أن تُمسخ هنا. يا لعذابات السوريين.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.