الألمان معنيّون لا الفلسطينيون
عندما يُطرح السؤال حول ما الذي يمكننا فعله لكي نستعيد التأييد العالمي، الشعبي والرسمي، لقضية فلسطين كآخر احتلال استعماري في العالم، يمكن تسجيل عشرات من المهام، والاعتراف بمئات من الأمثلة عن كيف خسرنا تضامناً دولياً قيّماً طيلة 73 عاماً. من بين ما يمكن أن يُذكر اليوم، سلوكيات فصائلية متخلفة وأدبيات دينية متطرّفة لا تفعل إلا تنفير شعوب من قضيتنا. يجوز استحضار نقاش مستفيض حول جدوى استخدام الصواريخ في قضية تحرّر وطني يصعب أن تُحسم لمصلحة أصحاب الحق من خلال حربٍ كلاسيكية ضد أقوى جيش في المنطقة، مقارنةً مع ما يمكن أن تفعله انتفاضة شعبية كتلك التي كانت تولَد في أحياء القدس، وفي القلب منها حيّ الشيخ جرّاح. غير أنّ هناك مواقف عالمية وازنة يستحيل تعديل فاصلة فيها مهما فعلنا حيالها. لقد شاءت إدارة تحرير "دوتشيه فيله"، إحدى أكبر المؤسسات الإعلامية في العالم، أن تختصر الإعجاز بكلمات قليلة على هيئة مذكرة إدارية ــ تحريرية لطاقم عملها. والمؤسسة العملاقة المذكورة هي الناطق الإعلامي الرسمي (تلفزيون وإذاعة وموقع إلكتروني بلغات عديدة) باسم ألمانيا في الخارج. هي إمبراطورية صحافية مكلّفة بترويج القيم الألمانية، ويتصدّر تلك المبادئ التكفير المتواصل عن ذنب النازية ومعاداة السامية. من هذا المبتدأ، تأمر مذكرة رئاسة تحرير "دوتشيه فيله" (الموجة الألمانية) موظفيها بأنّ "ماضي ألمانيا وتاريخها مع الهولوكوست يفرضان علينا مسؤولية خاصة حيال إسرائيل"، استناداً إلى الدستور الألماني والسياسة الخارجية لبرلين ما بعد الحرب العالمية الثانية. تحت هذا الخط الأحمر العريض، أمكن لرئاسة التحرير أن تسمح بانتقاد بعض سياسات إسرائيل قبل أن تظهر في صفحتَي المذكرة خطوط حمراء أكثر غلاظة: كلمة فلسطين في سياسة تحرير "الموجة الألمانية" تحيل إلى الضفة الغربية وقطاع غزة حصراً (لا وجود للقدس الشرقية التي يصنفها القانون الدولي والسياسة الألمانية الخارجية حتى كجزء من "الأراضي الفلسطينية"). يُمنع منعاً باتاً استخدام مصطلح "أبارتهايد" أو دولة فصل عنصري على أثير "دوتشيه فيله"، لا على لسان ضيف، ولا من قبل محرر أو مراسل أو مذيع. لا مكان على "الموجة الألمانية" لمصطلحي استعمار أو مستعمرين في الإشارة إلى إسرائيل. أما عن جماعات المستوطنين العنصريين من محترفي القتل والحرق والتهجير والكراهية، فهؤلاء، في "ستايل بوك" إدارة تحرير المؤسسة الألمانية الحكومية، يُسمَّون حصراً "راديكاليين" أو عناصر متطرّفين وعنفيين ينتمون إلى اليمين المتطرف، لا مكان لكلمة إرهابيين في توصيفهم. في المقابل، حركة حماس منظمة إرهابية لا يمكن تسمية عناصرها بالناشطين.
يمكن تقدير وجود آراء معترضة داخل المؤسسة فرضت صدور أوامر صارمة إلى هذا الحدّ هي غريبة في آنٍ عن الليبرالية وعن المهنية وعن حرية التعبير للضيوف بما أنّ التعليمات تفرض قطعاً فورياً لحديثهم في حال ورد على ألسنتهم ما يخالف مضمون المصفوفة. مذكرة "دوتشيه فيله" تختصر كلّ الحِمل الملقى على عاتق الفلسطينيين: عبء عالمي عمره أكثر من سبعة عقود، ممثلاً بالنازية وبمعاداة السامية وباكورتها، المحرقة اليهودية. إراحة الضمير عن دماء الأمس تتحقق بإغماض أعيننا عن جرائم اليوم. أجداد ألمان اليوم ارتكبوا جرائم رهيبة بحق أجداد يهود اليوم، فلندع أحفادهم يفظّعون بغيرنا. سفالة التمييز بين إرهاب يهودي حلال وإرهاب غير يهودي حرام. حقارة تكريس قاعدة أنّ هناك شعوباً تستحق كامل حقوقها، وآخرين ما عليهم إلا الاكتفاء بدموع الضحية لكي نشفق عليهم، وإلا يصبحون إرهابيين لو واجهوا بأيّ سلاح عدا بالبكاء.
الدرس الألماني محفّز إضافي للفلسطينيين لكي يبحثوا عن أوسع تأييد عالمي ممكن بدل أن يكون حجة انتحارية لمعاداة العالم. ليس الفلسطينيون هم المعنيين بدرس "دوتشيه فيله"، بل الألمان أنفسهم هم من يقفون أمام امتحان أخلاقي. ما يعني الفلسطينيين اليوم هو البحث عن أيّ تأييد ممكن إلا ذلك الصادر عن أنظمة تقتلهم خارج فلسطين، ثم تذرف دموعاً غزيرة حين يُذبحون على يد غيرها.