الأمل آخر ما يموت في السجن
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
كدتُ أن أنضم إلى الفريق الذي سيقطع الاشتراك بمنصة نتفليكس لأساب عديدة. لكن نظراً إلى ما تزخر به من مسلسلات وثائقية، عالية الجودة توثيقاً ونبشاً، جعل أمر قطعها يتردّد بين إقدام وإحجام. ومن هذه المسلسلات التي تُعرض حالياً "أقسى سجون العالم"، يقوم بالمغامرة فيه وتقديمه رافاييل رو، وهو سجين سابق في أحد السجون البريطانية، سبق أن حُكم عليه في بريطانيا بالسجن 12 عاماً بتهمة جريمة قتل لم يرتكبها (كما يكرّر في مطلع كلّ حلقة). وبعد الإفراج عنه، يقرّر أن يخوض مغامرة حقيقية من إنتاج "نتفليكس" من خلال هذه المغامرة يدخل أكثر سجون العالم قسوة، وذلك بعد الاتفاق مع الحكومات وإقناعها بفتح أبواب السجون الأقسى والأشد خطورةً، على أن يتحمّل مسؤولية ما سيرى وما يمكن أن يحدُث له. ومن هذه السجون الخطيرة سجون في أميركا اللاتينية تتصف بالوحشية، وسجون بعض البلدان الأكثر فقراً في أفريقيا. ليتعرف المشاهد على ما يكمن تسميته الرعب الحقيقي، وعلى جانب مظلم من هامش الحياة في كرتنا الأرضية.
سيتحدّث النزيل البريطاني، رافاييل رو، وفريق تصوير مصاحب له، لا يظهر أحد منهم، وربما يكون ضمنهم فريق حماية، سيتحدث إلى السجناء الخطرين المتهمين بتهم هي الأقسى في العالم، كالقتل المتسلسل وتجارة المخدّرات والاغتصاب (يكثر بصورة كبيرة في بلدان القارّة السوداء)، فضلاً عن المساجين من ذوي السلطة في السجون، حيث نكتشف أن سجوناً يديرها المجرمون الأكثر خطورة، يسيطرون على السجن ويديرونه إدارة مستبدّة حتى على السجّانين أنفسهم. في إحدى الحلقات في أوروغواي مثلاً، يُطلب من سجين أن يقتل أحد سجّانه. وفي حديث رو مع السجّانين، يتضح مدى الرعب الذي يعيشه هؤلاء الموظفون في انتظار من سيأتي عليه الدور في القتل.
وبصورة عامة، يكتشف المشاهد لهذا البرنامج الوثائقي أمراً مهماً، أنّ السجون تتشابه في نتائج مآسيها، فذلك السجن المزدحم ربما لا يشعر فيه السجين بالوحشة، ويذوب في هموم القطيع، لأنهم في عالم متساو من المعاناة، قياساً بالسجون الأوروبية مثلاً التي يُسمح في بعضها للسجناء بأن يفعلوا ما يشاؤون، مثل ذلك السجن البلجيكي الذي يُكافأ السجناء فيه الملتزمون بقوانين السجن والمتميزون بحسن السلوك فيه، بالخروج بعض الوقت والتنزّه في الأرجاء، وذلك لأنه موضوع في جزيرة بعيدة لا يمكن الهرب منها. سيكتشف المشاهد أن السجون الأوروبية يخترقها الملل والكآبة بسهولة، رغم أنها، قياساً بسجون أميركا اللاتينية والسجون الأفريقية، تبدو مرفّهة. ومن أغرب السجون كذلك سجن في الفيليبين يتكدّس فيه السجناء بطريقة كبيرة، بل إنّهم حين ينامون يضعون أجزاء من أجسادهم فوق ظهور بعضهم.
من النتائج المهمة التي يمكن أن يخرج منها مشاهد لهذا البرنامج الوثائقي أيضاً اشتراك جميع القتلة المحكوم عليهم بالمؤبد في الندم اليومي على جرائمهم، فحين يسأل المحقق أيّ أحد منهم إن كان يشعر بالندم على ارتكابه جريمة القتل، يجيب بعبارة: "نعم أشعر بالندم كلّ يوم"، وكان هذا الشعور عامّاً في كلّ السجون عبر العالم التي زارها رافاييل رو.
يظلّ السجن أصعب مكان يمكن للإنسان أن يعيش فيه، إنّه العزلة الكاملة والانقطاع عن كل تفاعل خارجي، يكون فيه الزمن متجمّداً ويعيش الإنسان مع ندمه لحظة بلحظة. عذابات لا حدود لها سبّبتها نزوة عابرة لمراهق ربما ما دفعه إلى الجريمة ليست الحاجة إلى المال فقط، إنّما دوافع إجرامية كامنة لا أحد يعلم من أين اكتسبها، وتحت أي دافع مريض اقترفها (كثيرون منهم ارتكب جريمته تحت تأثير الكحول).
السجن مدرسة مؤلمة، والمقيمون فيه يشكلون مجتمعاً مستقلاً تزداد فجوته مع الواقع الخارجي. وهذا ربما أكثر ما أراد هذا المسلسل الوثائقي أن يسلط الضوء عليه. "آخر ما يموت في السجن هو الأمل"، عبارة قالها أحد السجناء في البرنامج، وتحمل بلاغتها الخاصة، فلا بد من وجود أمل للسجين، حتى إن حكم عليه بعشرات السنين. ومن دونه، لن يكون لوجوده معنى. وهذا المعنى هو الذي يسمح له بأن يقضي أيام سجنه بهدوء، وإن ظاهرياً.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية