الإرهاب في أفريقيا .. هوامش على جدل تأصيل المقاربات غير التقليدية
في السياق الأفريقي، ثمّة ظاهرة لافتة على نحو مخيف؛ إذ تتمدّد ظاهرة الإرهاب خلف بؤر الثروات الاقتصادية المستحدثة في القارّة، ووفق خطوط الاهتمام الاستراتيجي للدول الفاعلة في القارّة، أو المعنية باستمرار الهيمنة عليها ومواردها. في المقابل، تبدو جهود الحكومات الأفريقية والمنظمات والأطراف الدولية في مواجهة ظواهر الإرهاب في هذه البؤر والمساحات دون الحد الأدنى المطلوب، تصل أحيانًا، كما في إقليم الساحل وغرب أفريقيا وفي الصومال أخيرا، إلى حد التضارب الذي يفيد الجماعات الإرهابية في القارّة وشبكات دعمها، بغض النظر عن مدى تحقّق جانب القصد في ذلك.
وبينما تلفت هذه الملاحظة اهتمام أعداد متزايدة من المراقبين للظاهرة، ظلت المقاربة الأمنية، أو ما طوّر لاحقًا بمفهوم الأمننة Securitisation، مهيمنة على جهود تفسير ظاهرة الإرهاب في أفريقيا، ليس في سياق إعلامي سائد غير واع فحسب، ولكن أيضًا وسيلة مثلى لتبرير استمرار الاستغلال الدولي للظاهرة، وفشل حكومات أفريقية عديدة في تلبية حاجات مجتمعاتها الأساسية للتنمية، واستمرار ما يمكن وصفها عسكرة موازناتها (كما في النموذجين، التشادي والسوداني، سابقًا)، إلى جانب عجز المنظمات الإقليمية الأفريقية ومؤسّساتها المعنية عن الانخراط الجدّي لمواجهة الظاهرة، إلا وفق ترتيباتٍ دوليةٍ مسبقة، كما في حالة قوات بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال، وقوة "تاكوبا" الأوروبية في إقليم الساحل، عوضًا عن تبني خطابات غربية تجنح إلى تصنيف المسلمين في أفريقيا (خصوصا في الدول التي يشكلون أقلية بها) تهديدا مجتمعيا، وتعميق ما وصفه محمد هندريكس M. Hendricks) 2020) بتصنيع الإرهاب في أفريقيا، والتوجه السائد لمساواة الإسلام بالإرهاب عقب أحداث "11 سبتمبر" في 2001. في هذا السياق، تقدم المقاربات غير التقليدية لظاهرة الإرهاب، والتي تعني بالأساس بسياقاتها المجتمعية، فهمًا أكثر دقّة للظاهرة وتفاعلاتها وتهديداتها المحتملة، كما تقدّم نقدًا أصيلًا لدور الدولة الأفريقية في استمرار الظروف المجتمعية التي توفر بيئات مثاليةً لانتشار الظاهرة وتمدّدها بشكل متزايد.
المجتمع الأفريقي وقابليته للتطرّف؟
طرحت فكرة قابلية المجتمع الأفريقي لاعتناق أفكار دينية متطرّفة حاضنة للحركات الإرهابية من منطلق تفكيك البيئات المحفزّة مستقبلًا لتصاعد النشاط الإرهابي في القارّة. ويمكن الاسترشاد هنا بملاحظاتٍ تاريخية عن علاقة الدين بالكفاح المسلح أو العنف، طرح بعضها ستيفن ويجرت S. L Weigert في مؤلفه "الدين التقليدي وحرب العصابات في أفريقيا الحديثة" (1996)، أبرزها أن قادة أغلب حركات المقاومة التي استندت للديانات الأفريقية التقليدية، في فترات مختلفة في القرن الماضي، كانوا من العناصر الريفية، سيما حركتا ما ماو Mau Mau في كينيا، والتي عدّت المثال الأبرز لها، والتمرّد الوطني في مدغشقر (1947)، وأن فشل تمرد كويلو Kwilu في زائير (1964) رجع بالأساس إلى قاعدته الريفية على نطاق واسع، واعتماده المفرط على رؤية شاملة سحرية - دينية، مع سمةٍ عامّة في أغلب حركات العنف، مفادها أن قادتها الريفيين كانوا أكثر تأثيرًا وحسمًا من القادة الحضريين "المستغربين". وميزة هذه القراءة، بإيجاز بالغ، تقديمها تفسيرًا لنمو الجماعات الإرهابية في أجزاء متفرقة وسط بيئاتٍ ريفية، ما يعزّز أهمية فهم السياق المجتمعي، وفرضيات الحرمان النسبي، ولعنة الموارد في تفسير الظاهرة.
عجزت أفريقيا عن مواجهة الإرهاب، إلا وفق ترتيباتٍ دوليةٍ مسبقة، كما في حالة قوات بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال
وفي سياق مجتمعي أكثر شمولًا، رأى أوكون أكيبا (Okon Akiba - 2020) أن القادة الدينيين أصبحوا يمتلكون، بشكل متصاعد، فرصًا كبيرة لتيسير الاتصال بين مؤسسة العقيدة (الكنيسة/ المسجد) ومعتنقي دينها. وأنه مع انكماش محيط التفاعل المادي المباشر، سواء بفعل التطوّر التكنولوجي أو جائحة كوفيد 19، أصبحوا قادرين على التأثير الهائل في الرؤية الشاملة "لمريديهم"، والتسلط المباشر على تفكيرهم الحياتي بشكل عام؛ الأمر الذي كشفت عنه دراسات مسحية (نهاية 2019) أن مستويات التدين مرتفعة للغاية في أفريقيا جنوب الصحراء، وأن نسبة من يرون أن الدين هام للغاية في أمور حياتهم تبلغ أعلاها في إثيوبيا (98%)، وغانا (89%)، ونيجيريا (82%)، وجنوب أفريقيا (79%)، مع ملاحظة استمرار "التنافس" الديني كما في حالة نيجيريا التي درسها تشارلز ألاو C. Alao ورونكي ناي Ronki Nai في فصل عن الدين والعنف في غرب أفريقيا (2020)، حيث تواصل المنظمات المسيحية جهودها الدؤوبة، منذ القرن التاسع عشر في واقع الأمر، لتحويل البلاد إلى دولةٍ مسيحية، وهي مساعٍ تواجه تحفظًا دائمًا من المسلمين النيجيريين. كما تواجه غالبية الجماعة السنية في نيجيريا، في المقابل وحسب تحليلهما المفصل والاستقصائي، اتهاماتٍ من متطرّفين إسلاميين "بخيانة مبادئ الإسلام"، لقبولها دعم فكرة الحكم الديمقراطي العلماني، وتقود، بشكل غير مباشر، إلى تنامي الأجندات الإرهابية على الجانبين "المتنافسين".
تواجه غالبية الجماعة السنّية في نيجيريا اتهاماتٍ من متطرّفين إسلاميين "بخيانة مبادئ الإسلام"، لقبولها فكرة الحكم الديمقراطي العلماني
ويمكن تلمّس هذا الجدل بشكل أكثر تحديدًا بقراءة فيها قدر كبير من التفهم لأثر الظروف المجتمعية على انتشار حركة تمرّد "إسلاموية" في جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا، حملت اسم القوات الديمقراطية المتحالفة، ظلت تنتشر بالأساس في منطقة البيني Beni شرقي الكونغو وقرب حدودها مع أوغندا، منذ تكوّنها في 1993. واستهدفت الحركة المدنيين وقوات الأمن والدولة الأوغندية في وقت سابق، ثم سعت، حسب أدبياتها المنشورة على مواقع إلكترونية تابعة لها، إلى القضاء على الحكومة الأوغندية، وأن تحل محلها "حكومة إسلامية"، وإن استبدلت، في الآونة الأخيرة، حسب دراسة جيسبر كولن Jesper Cullen عن الحركة (2017)، أولوياتها بالأنشطة التجارية وغير القانونية، لتجيء بعدها الأهداف السياسية والدينية بشكل أقل وضوحًا، ولا تزال تركّز أنشطها في المناطق الريفية الشاسعة في شرقي الكونغو.
ونظرًا إلى غموض هذه الحركة، لا يوجد وصف محدّد لها بين جماعة إجرامية صغيرة أو جماعة إرهابية إسلاموية أو حركة تمرّد لها أهداف سياسية، غير أن أهدافها تظل محدودة في ضوء العزلة التي فرضتها الجماعة على نفسها في هذه المنطقة النائية، وعملها على تحقيق قدرات ذاتية أكثر من الارتباط بجماعاتٍ إرهابية في الخارج. ولكن الحكومة الأوغندية رأت الجماعة جزءًا من شبكةٍ أعرض من الجماعات المسلحة الإسلاموية في شرق أفريقيا، وهو الطرح الذي رأى كولن أنه ليست ثمّة شواهد جادة تدعمه. ولاحظ، في استدلال على صحة فرضيته، حدوث تغير تدريجي في أهداف الحركة نحو السعي إلى تكوين مجتمع منفصل عن التأثيرات الخارجية؛ ومن ثم تنويع أنشطتها وتشييد شبكة طرقٍ بسيطةٍ لخدمة المصالح التجارية وتطوير صلاتها مع جماعات أخرى في شرقي جمهورية الكونغو، ونجاحها في استقطاب أعداد كبيرة من الكونغوليين، كما واصلت هجماتها على قوات الأمن والمدنيين، سيما منذ القبض على قائد الحركة جميل موكولو J. Mukulu (إبريل/ نيسان 2015)، وإن توصل في خلاصته، عقب استعراض قدرات الحركة بالتفصيل وعبر مسار تاريخي، وبقدر من التناقض النسبي، إلى صعوبة تهديد الحركة للدولة الأوغندية وأجهزتها الأمنية القوية.
لا يوجد وصف محدّد لحركة "القوات الديمقراطية المتحالفة" في الكونغو بين جماعة إجرامية صغيرة، أو جماعة إرهابية إسلاموية، أو حركة تمرّد لها أهداف سياسية
ما يهم في هذا التحليل كشفه من عدة أوجه تشابك الأوضاع المجتمعية مع بنية الجماعات الإرهابية، وهو ما قاد إلى ما لاحظه أكيبا، في مقدمته المهمة، أن الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس)، في سياق تناوله، بصدد العمل على التوصل إلى استراتيجيات أفضل لضمان تنمية سوسيو -اقتصادية مستدامة، ومن ثم احتواء المخاطر الكامنة في الأنشطة الإرهابية أو توسعها، ضمن سياق أوسع لتبني الحكومات المختلفة دبلوماسية وقائية لتسوية مشكلات عدم الاستقرار السياسي.
لعنة الموارد: تفسير التشابكات والتقاطعات؟
رأى باحثون، على الرغم من صعوبة التواضع على تعريف جامع للإرهاب، أن التفسير الحديث للظاهرة تأثر بأربع موجات حديثة، حددها ديفيد رابوبورت D. Rapoport: الفوضوية Anarchist، ومواجهة الاستعمار، واليسار الجديد، وموجة التيارات الدينية؛ وأن "الإرهاب الحديث" بدأ في روسيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وانتقل إلى غرب أوروبا والبلقان وآسيا في غضون عقد واحد. وأن الفوضوية، المرتبطة بالأساس بتحدّي النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة، شكلت الموجة الأولى للإرهاب الدولي الحديث، واستمرت قرابة 40 عامًا، وسادت خلالها حملات اغتيال لكبار المسؤولين، وتبعتها مواجهة الاستعمار بداية من عشرينيات القرن الماضي، واستمرت قرابة 40 عامًا أخرى، وموجة اليسار الجديد التي لم تتراجع على نحو كبير إلا في نهاية القرن الماضي. ووصفت الموجة الرابعة بالموجة الدينية، ورأى أنه، قياسًا إلى الموجات الثلاث السابقة، فإن هذه الموجة ستتراجع بشكل كبير بحلول العام 2025. بينما اقترح أولادوسو آيندي Oladosu Ayinde تأريخًا بديلًا لظاهرة الإرهاب في أفريقيا، وأنه ثمّة ثلاثة مراحل مختلفة للإرهاب وتطوره في القارة، وهي المرحلة الأفريقية - الشرقية، والمرحلة الأفريقية الغربية، والأفريقية العالمية. وأن الأولى تبدأ مع الغزو العربي لأفريقيا جنوب الصحراء بحثًا عن العبيد، ومثّل انخراط الأوروبيين في هذه التجارة بدء المرحلة الثانية للإرهاب في أفريقيا. وقد ظل الرقّ ظاهرة الإرهاب الأكبر خلال تلك المرحلة. وميزت نهاية الرقّ بدء المرحلة الثالثة "الأفريقية العالمية" للإرهاب في القارّة.
التفسير الحديث للظاهرة تأثر بأربع موجات حديثة: الفوضوية، ومواجهة الاستعمار، واليسار الجديد، وموجة التيارات الدينية
ويتّضح من هذا التقسيم ارتباط العنف، أو التمرّد، بظاهرة الاستغلال الاقتصادي، بشكل واضح، قدمت الباحثة النيجيرية، زينب لادان ماي- بورنو Z. Ladan Mai Bornu، في سياقه، ولتفسير لعنة الموارد لظاهرة الإرهاب، دراسة حالة رئيسة مهمة عن نيجيريا عبر مؤلفها العنف السياسي والنفط في أفريقيا (2000)، إلى جانب حالات أنغولا وتشاد والكونغو وجنوب السودان، ومفيدة إلى حد كبير في تفسير الحالة المتوقع تصاعدها مستقبلًا في شمالي موزمبيق. ولاحظت أن الإرهاب من أشكال العنف السياسي، ويرتبط بمحاولة تحقيق نوع من التأثير "داخل سياق سياسي"، وأنه نتيجة مجموعة معقدة ومتنوعة من العوامل السوسيو- ثقافية والنفسية والسياسية؛ كما أنه وليد زمنه ومكانه. وأن هناك مواطنين يشاركون في التنظيمات الإرهابية، من أجل التضامن الاجتماعي – الاقتصادي، بغض النظر عن العائد السياسي، وأن هدفهم يكون بالأساس تكوين صلات (أو مصالح اقتصادية) مع العناصر الأخرى، وليس مجرّد تحقيق أجندة الجماعة الإرهابية، في مثالٍ فريدٍ على التشابكات والتقاطعات على المستويين، المحلي والخارجي.
كما تمثل أنغولا مثالًا فريدًا للدولة الأفريقية الثرية بمواردها الطبيعية وعائداتها الاقتصادية، والتي يعاني مجتمعها، في الوقت نفسه، من الفقر وتدنّي مجمل المؤشرات الاجتماعية. إذ تعتمد أنغولا، ثاني أكبر منتج للبترول في أفريقيا (بعد نيجيريا)، على صادرات البترول (إلى جانب الغاز الطبيعي والماس)، لتحقيق ناتج محلي إجمالي في حدود 82 مليار دولار (2019)؛ لكنها تصنّف حسب البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في المرتبة 149 بين 189 دولة من جهة المؤشرات الاجتماعية. وتحضر مسألة مواجهة الإرهاب في كل ارتباطات أنغولا الخارجية، سيما مع الولايات المتحدة والهند. مع ملاحظة أن الثروة المعدنية في أنغولا لم تغذّ الحرب هناك فحسب، لكنها صاغت أشكال الصراع، وغذّت مسائل تقليدية، من قبيل عدم عدالة توزيع عائدات هذه الموارد والصراع على ملكية عائدات النفط في أنغولا بين الجماعات القاطنة في مناطق استخراجه من جهة والحكومة الوطنية وشركات النفط متعدّدة الجنسيات من الجهة الأخرى، كما في مثال دلتا النيجر في نيجيريا.
الأمن أولًا؟
قدم بندكت إرفورث Benedikt Erforth، في العام الجاري (2020)، كتابًا مهمًا عن السياسة الأمنية الفرنسية المعاصرة في أفريقيا، لفت فيه إلى سياسة فرنسا التدخلية "الجديدة" new interventionism في أفريقيا، تمثلت في عودة فرنسا، منذ عام 2013، إلى اتباع سياسة التدخل العسكري المباشر في شؤون القارة، بعد الضربات العسكرية المشتركة مع بريطانيا، لإسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا في 2011، ومساهمة باريس عسكريًا في القبض على الرئيس الإيفواري السابق، لوران غباغبو، في إبريل/ نيسان 2011.
مواطنون يشاركون في التنظيمات الإرهابية، من أجل التضامن الاجتماعي – الاقتصادي، بغضّ النظر عن العائد السياسي
وبادرت الأخيرة إلى نشر قواتها في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، وعودة فرنسا بقوة إلى ساحتها الخلفية الأخيرة. وبالفعل، شهدت الفترة 2014-2019 عودة القوات الفرنسية من أفغانستان، وتراجع مخصّصات الدفاع السنوية إلى 1.5% من إجمالي الناتج المحلي الفرنسي، وخفض 34 ألف وظيفة بشؤون الدفاع في الفترة 2014 – 2020. وجاءت هذه العودة على الرغم من قناعة الإدارة الاشتراكية بشعار حلول أفريقية للمشكلات الأفريقية. واستمر التناقض بين الخطاب الفرنسي والممارسة الفعلية جليًا في العمليات العسكرية الفرنسية في الساحل وجمهورية أفريقيا الوسطى (تحت لافتة تفادي تكرار النموذج الرواندي). وفي قراءة ثاقبة، يلاحظ إرفورث أن سياسة فرنسا الأمنية الحالية تجاه أفريقيا لا تزال تتأرجح بين الحلول التقليدية لإدارة الأزمة ومقاربة محدثة متعدّدة الأطراف، تعزّز الدور الأفريقي. وعلى الرغم من استمرار خفض الموازنات العسكرية الفرنسية، طوال العقدين الفائتين، فإن قدرة فرنسا على التدخل خارج أراضيها استمرت في أنها واحدة من أهم أدوات صنع السياسة الخارجية الفرنسية. وإجمالًا، فإن الأهمية التي أولاها السياسيون الفرنسيون لقدرات بلادهم العسكرية، وتفسيرهم الجهد الحربي كأداة دبلوماسية أساسية تعكس فهمًا كلوزويتزيًا (نسبة للمنظّر العسكري الروسي كارل فيليب فون كلوزويتز (1780-1831) الذي نظر إلى الحرب أن لها جوانب أخلاقية وسياسية مهمة) للمجال العسكري. ورأت فرنسا رسميًا، منذ وقت مبكّر، أن القضاء على الظروف التي تؤدي إلى انتشار الإرهاب تتضمن برامج تنمية وحكم رشيد، وليس مجرّد سياسات أمنية. ولكن التجربة العملية، بعد استعراضٍ مكثفٍ للدور الفرنسي في مكافحة الإرهاب في أفريقيا في العقد الفائت، برهنت على أن ثمّة فهما غير منطوق، هو وجوب تجاوز التطرف الإسلاموي، قبل تصور أي حال سياسي (في مالي تحديدًا)، وتناقض هذا المفهوم مع الخطاب الرسمي السابق للخارجية الفرنسية الذي اعتبر الإرهاب نتيجة، وليس سببًا للمشكلة، ووضع الموقف السياسي في الجنوب، في صلب حل المشكلة.
وتكشف هذه المقاربة عن تعميم أولوية الأمن ومواجهة التهديد الإسلامي في تصوّرات الأطراف الفاعلة الخارجية (أبرزهم فرنسا)، وشركائها في الداخل الأفريقي، وتعمد هذه المقاربة تجهيل العوامل الداخلية التي تمثل دعمًا مستدامًا للإرهاب وشبكات دعمه الدولية والإقليمية.
حل أفريقي لمشكلة أفريقية؟
يمثّل العنوان، في حد ذاته، مأزقًا جدّيًا، كونه استغلّ مرارًا لتبرير القمع واستمرار الأزمات، وليس حلها، كما في نموذج إثيوبيا داخليًا وإقليميًا، حيث بادر رئيس وزرائها، آبي أحمد، بحمل لافتة في أزمة سد النهضة ورفض "التدخل الأميركي"، بينما رفض، بالمخالفة لنصوص منظمة الوحدة الأفريقية والاتحاد الأفريقي، أي تدخل للأخير لتسوية أزمة إقليم التيغراي سلميًا، على الرغم من تهديداتها وتداعياتها الإقليمية. إضافة إلى ذلك، تظلّ الآليات الإقليمية التي يتم أحيانًا اللجوء إليها لمواجهة ظاهرة الإرهاب مرهونة بشكل واضح بمصالح الأطراف الإقليمية ذاتها، كما في المثالين، الكيني والإثيوبي، وتدخلاتهما بشكل سافر، وبدرجة متفاوتة من إذعان نظام مقديشو وتنسيقه أحيانًا، في شؤون الصومال وملفاته الداخلية، وأهمها الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرّرة خلال أسابيع، وارتباطات الصومال الخارجية، وأدائه الاقتصادي بغطاء تقليدي: التعاون في مكافحة الإرهاب.
تقدم مالي المثال الكلاسيكي لعدم نجاعة المقاربة الأمنية بمفردها في فهم ظاهرة الإرهاب
ولكن الحل الأفريقي للتهديدات الإرهابية ومخاطرها يتطلب أكثر من مجرّد إرادة سياسية، أو تنسيق أدوار الفاعلين الخارجيين في القارّة، بل يجب أن تنظر القارّة ودولها في الظروف أو الأبنية التي يمكن أن تديم النموين، الاقتصادي والسياسي، ما يعني وجوب أن تحقق الاستقرار والأمن، والمضي في مسائل التكامل الاقتصادي والاستقرار المالي ووحدة المواقف السياسية، حسب خلاصةٍ بالغة التفاؤل، أوردها عبد الكريم بانغورا A. Bangura وبيلي د. تيت Billie D. Tate في دراسة استجابات أفريقيا للإرهاب الدولي والحرب عليه (2010)، مع ملاحظة إحصائية، وهي انتشار الإرهاب في الدول ذات الأغلبية المسلمة بالأساس، ما يعزّز فرضيات نجاعة الحلول التنموية للقضاء على نمو ظاهرة الإرهاب وتمدّدها.
وتقدم مالي المثال الكلاسيكي لعدم نجاعة المقاربة الأمنية بمفردها في فهم ظاهرة الإرهاب؛ إذ لم تعبر باريس، في بداية التدخل الفرنسي في الأزمة في مالي 2013، عن مساعيها للتدخل لحل أزمة إنسانية أو حماية مواطنيها هناك، بل أعلنت، منذ البداية، أن تدخلها لمقاومة الجهاد العالمي، وأنه حرب دولية على الإرهاب الإسلامي Islamic terror. وركّز الإعلام الفرنسي، حسب بانغورا وتيت، على مخاوف احتلال الإرهابيين مالي، وأن على فرنسا القضاء على أي منطقة سيطرة أو نفوذ إسلاموية في مالي. وتم استخدام مصطلحات، مثل جهادي وإسلاموي وإرهابي، على نحو متبادل، مترادفاتٍ لمعنى واحد، وتغيّرت أهداف الحرب، من حماية سيادة مالي وطرد الإسلامويين والجهاديين المسلحين إلى "القضاء على الإرهاب"، الأمر الذي يفسّر استمرار اضطراب الإدارة السياسية والاقتصادية للرئيس إبراهيم كيتا بحجة مواجهة الإرهاب، حتى الانقلاب عليه في أغسطس/ آب 2020، على خلفية أزمات اجتماعية واقتصادية، كادت تعود بالبلاد إلى أجواء العام 2012-2013، ما أشار إلى الفشل الذريع لجهود مواجهة الإرهاب الحكومية والمدعومة من فرنسا بسبب تركيزها على ترويج للمعضلة الأمنية، وعدم معالجة الأسباب الجذرية لأزمة الدولة الوطنية، وإقصاء خياراتها الديمقراطية بحجّة التهديدات الإرهابية.
ما بعد النص
تظل جهود تفسير ظاهرة الإرهاب في أفريقيا ومساعي تقديم حلول حقيقية للأزمة التي تضرب في القارّة، وتهدّد باتساع رقعة الانتشار الجغرافي للجماعات الإرهابية، وتحالفاتها ومصادر تمويلها المتنوعة، بحاجةٍ إلى تأصيل المقاربات غير التقليدية لهذه الظاهرة، وفهم سياقاتها المجتمعية لتحديد مسؤوليات الدولة الوطنية الحقيقية في مواجهة الأزمة، وليس مجرّد تنسيق أدوار الفاعلين الخارجيين في مواجهة الظاهرة، وما يعنيه ذلك من تعزيز استدامة التهديدات الإرهابية، وإتاحة الفرص أمام انتشار أنشطة الجماعات الإرهابية الإجرامية، في غياب تنمية اقتصادية وإصلاحات سياسية حقيقية، بحجّة جهود مواجهة الإرهاب، وضرورة الدعم الخارجي لنظم الحكم في بؤر انتشار الأنشطة الإرهابية في أفريقيا جنوب الصحراء.