الإقامة في اللغة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
يفرّق رولان بارت بين نصوص القراءة ونصوص الكتابة.. تفريقا كحدّ السيف. نصوص الكتابة هي الأعلى والأسمى، وربما الأبقى، بينما تقف نصوص القراءة عند حدود الاستهلاك العابر. ولكنْ لا أظنّ أن هذه النصوص تستقيم جماليا خارج اللغة. واللغة "أنواع" و"أشكال"، بل ومراتب. وهي في الأدب غيرها في التعامل، وغيرها كذلك في الكتابات المباشرة وصيغ الوظائف والمهن، إن صحّ التعبير. كما أنها مراتبُ في الأدب، فحتى في هذا الأخير يمكن الحديث عن لغةٍ مقروءةٍ ولغة مكتوبة. لكنْ، وحتى لا نقع في فخّ اللغة وألغامها وخداعها، من المهم أن نفرّق بين الاستخدام الواعي للغة واستخدامها مهرَبا. وهنا المفارقة، فيمكن أن تجد من يستخدم اللغة في النص السردي طوق نجاة للعبور إلى ضفّة الأمان، وهو استخدام وظيفيّ براغماتي للغة. ويأتي ذلك نتيجة عدم مقدرته على الولوج إلى ما تحت القشرة، مثلا إلى الحدث، إلى الموضوع.. فهناك من يكتبون بلا موضوع، ويمكن التمثيل لذلك بما كتبه غسّان كنفاني في إحدى مقالاته، وكان يوقعها باسم "فارس فارس" عن الكتاب الأول للعراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي، إن قصصه تشبه غابة متشابكة الأغصان، لا تستطيع أن تعبر من خلالها إلى العمق؛ فالأغصان المتشابكة تشكل عقبةً أمام الدخول إلى العمق، لأنه في الحقيقة لا يوجد (والكلام لكنفاني) شيء خلف تلك الأغصان المتشابكة.. لذلك ترى الكاتب، في مثل هذه النصوص، يحوم ويطوف بلغته حول النص، من دون أن يتعمق فيه، فيكتسي نصه بالتالي حالة هلامية ترهق القارئ.
ولكنْ هناك، في المقابل، من يتعاملون مع اللغة تعاملا واعيا، أي يولونها اهتماما أوليا ليس بقصد استخدامها غطاءً يدثّرون به عجزهم، إنما العكس هو الصحيح. أي أنهم ينفتحون، من خلال اللغة، على إمكانات الشعر والبلاغة، وأن يجرّبوا ولوج "شوارع" جديدة توفرها اللغة، نظرا إلى ما يكتنفها من حمولات بلاغية وجمالية كبيرة (على سبيل المثال نصوص سليم بركات وإلياس فركوح وصالح العامري). وأول من دشّن هذه الدعوة إلى التجريب عبر اللغة عربيا هو الروائي المصري، إدوار الخراط، حين أطلق مفهوم "الحساسية الجديدة"، وهي حساسية تقوم على إيلاء اللغة مكانة أولى في مقابل الموضوع أو الفكرة؛ عبر محاولة اكتشاف الإمكانات الكبيرة للغة. وقد دافع الخراط عن فكرته تنظيرا وممارسة، في مقالاته وفي ما تركه من إبداع في القصة والرواية، كروايته "رامة والتنين"، والتي حاول فيها أن يدشّن أسلوبا جديدا في الكتابة الروائية يقوم على التجريب اللغوي بالأساس. لذلك، وجد هذا الأسلوب الذي اجترحه إدوار الخراط من يعمّقه من الكتاب العرب لاحقا. ولكن هذا التعميق ستكون له أهمية كبيرة فقط، إذا كان واعيا بطبيعة اللغة ومرموزاتها وحمولاتها الجمالية، فينتج بالتالي أدبا سرديا جديدا تتفوّق فيه اللغة على غيرها من عناصر السرد. ووفّر أسلوب الخراط، بالتالي، طريقة جديدة لـ"قول" الرواية، يعتمد على تقديم المادة السردية تقديما يكتنفه الغموض والالتباس والتهجين. وربما نجد، في زحمة هذا الميدان، من يتعاملون مع اللغة تعاملا مبالغا فيه، فتكون "ضحيته" المادة الحكائية، التي يعاني القارئ، في أحيان كثيرة، من أجل بلوغها، فيهرب من إكمال العمل، روايةً كان أو قصة. وكثيرا ما نسمع عبارة "ملّيت يا أخي، ما قدرت أكمّل الرواية"، وهي عبارة تحمل دلالة مهمة، إذ يمكنها أن تشير إلى عدم مقدرة الكاتب على إبرام عقد مع قارئه يُلزمه، طوعيا، بإكمال ما كتب.
استعارة أداة من أدوات الشعر، اللغة، بمعناها البلاغي والإشاري، تُغْني العمل الأدبي وتفتحه على روافد جديدة. ولكن من المهم أن تكون هذه الاستعانة (باللغة الشعرية) واعية بمقاصد السرد ومهمته المتمثّلة في إيصال رسالته الجمالية، وألا تغطّي اللغة على الموضوع، وتغلب عليه وتقمعه، وتحرم القارئ بالتالي من النفاذ إلى عمقه واستكناه معانيه ودلالاته المأمولة.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية