الاستبداد العربي وتغذية الإسلاموفوبيـا
أعاد حرقُ نشطاء من اليمين المتطرّف، في السويد وهولندا والدنمارك، المصحف إلى الواجهة أسئلة الإسلاموفوبيا والعوامل التي تُغذيها وتسهم في انتشارها. ولعلَّ تزامن تنامي هذه الظاهرة مع استمرار تصدّر الحرب على الإرهاب الأجندات الإقليمية والدولية يجعل من ربط الرأي العام ووسائلِ الإعلام والدوائرِ الأمنية والاستخباراتية بين الإرهاب والإسلام ''دُوغما فكريةً ثقافيةً'' من الصعب مجابهتُها ودحضُ منطلقاتها بآليات تقليدية.
وإذا كانت الإسلاموفوبيا توحي، في مختلف تجليّاتها، بأن الأمر يتعلق بمعادلةٍ غربية بحتة، فإن تفكيكها والوقوف على تحوّلاتها يضعان الاستبداد العربي في قلبها. ولا مبالغة في القول إنه يشكّل، بمؤسّساته وأجهزته الإعلامية والدينية (الروحية!)، أحد الروافد الرئيسة في تغذيتها والاستثمار في تناقضاتها، إذ تستغل أنظمتُه افتقادَ الحكومات الأوروبية رؤيةً واضحةً بشأن إدارة ''الحقل الديني الإسلامي'' في أوروبا، والغرب عموماً، لتَحُلَّ محلها، عبْر مؤسساتٍ دينية تضطلع بإنتاج خطابٍ دينيٍّ ''معتدل'' وأكثر قدرةً على إقناع الجاليات المسلمة وتيسير سبل اندماجها في المجتمعات الأوروبية. ويُمثّل قطاع تكوين الأئمة وتأهيلهم وإرسالهم إلى أوروبا عصب هذا الحقل ومصدرَ توتراته في الوقت نفسه. ولطالما حمَّلت تنظيماتُ اليمين المتطرّف أئمة المساجد في الدول الأوروبية مسؤولية انتشار خطاب الكراهية والعنصرية والعنف، ونزوعِ فئاتٍ عريضة من هذه الجاليات نحو التشدّد الديني، على اعتبار أنهم وافدون من دول عربية وإسلامية وغير قادرين على فهم التركيبة المجتمعية والثقافية الغربية واستيعابِ خصائصها. وقد بُذِلت مساعٍ، في أكثر من بلد أوروبي، لأوربة هذا القطاع، بل وعلمنته (كما في فرنسا)، وإخضاعه للقيم الأوروبية، بإعادة النظر في التمويل الخارجي للمساجد والمؤسّسات الإسلامية، ومراقبة قنوات التأثير الفكري والأيديولوجي عليها، والاعتماد على أئمةٍ ولدوا ونشأوا في أوروبا. وعلى الرغم من ذلك كله، تبدو الخبرة الطويلة لأنظمة الاستبداد العربي في توظيف الدين في السياسة أكبرَ في هذه المعركة التي تتداخل فيها حسابات السياسة والاقتصاد وتوتر الهويات.
وبما أن الدين يمثل أساس المشروعية السياسية في أكثر من دولة عربية، فإن إعادة إنتاج هذه المشروعية وسط هذه الجاليات يبقى رهاناً سياسياً مركزياً بالنسبة لأنظمة الاستبداد العربي. وتتّخذ إعادة الإنتاج هاته أشكالاً متعددة، أبرزها انشغال هذه الأنظمة بالحد من تأثير ما تقوم به منظمات مدنية عربية وإسلامية في أوروبا من أجل إشاعة فهمٍ أوروبيٍّ متقدّم للإسلام، لا يواجِه فقط التمثلات السلبية بشأن الإسلام والمسلمين، بل يساعد أيضاً على الاندماج السلس وغير المكلف للعرب والمسلمين في المجتمعات الأوروبية، من خلال مصالحة بين مواطَناتهم الأوروبية ومعتقدهم الإسلامي. هذا إضافة إلى ما تقوم به دوائر ثقافية عربية وإسلامية رسمية من أجل إنتاج ''حقولِ سلطةٍ مضادةٍ'' داخل البلدان الأوروبية، ما يغذّي التوترات الهوياتية ويرسّخ ظاهرة الخوف من الإسلام وإشاعة فكرة استحالة استيعابه ضمن المنظومة المجتمعية والثقافية والقيمية الغربية.
زيادة على ذلك، دفع التقاطب السياسي الذي أفرزه سياق ما بعد الربيع العربي بين الأنظمة الحاكمة والإسلام السياسي ''الديمقراطي'' هذه الأنظمة، بواسطة إعلامها ونخبها، إلى تغذية مشاعر الخوف داخل الرأي العام الغربي من تنامي جماعات الإسلام الجهادي العابر للحدود، بترويج خطاب مفاده بأن هذه الجماعات تستغلّ هامش الحرية والديمقراطية والتسامح الموجود في المجتمعات الغربية لنشر أفكارها المتطرّفة بين الجاليات العربية والمسلمة وتهديد السلم الاجتماعي داخل هذه المجتمعات.
وإذا كانت حدّة هذا التقاطب قد تراجعت بعد فشل مشاريع التحوّل الديمقراطي في الإقليم وتمكُّن الاستبداد العربي من استعادة زمام المبادرة، فذلك لا يعني تخلّي هذا الاستبداد عن الاستثمار في الإسلاموفوبيـا واستخلاص عائداتها. بل يمكن الحديث عن مداخل جديدة لذلك، أبرزها محاولة اللعب على التصدّعات الموجودة في الحياة السياسية الأوروبية، وبالأخص في ما يتعلق بدعم تنظيمات اليمين المتطرّف المعادي للعرب والمسلمين في مواجهة ضغوط الحكومات الغربية بشأن حقوق الإنسان والهجرة وغيرها.