الاستجابة لأزمات قطاع غزّة ... الواقع والتحديات
كاتب وباحث فلسطيني في القانون والعلوم السياسية والنزاعات الدولية وحل النزاعات
يخضع قطاع غزّة للاحتلال الإسرائيلي المباشر منذ عام 1967، ومنذ عام 2005، ادّعت إسرائيل الانسحاب منه، لكنها ما تزال قوة احتلال وفقًا للقانون الدولي. ومنذ 2006، فرضت إسرائيل حصارًا خانقًا عليه، أدّى مع ما تزامن معه من عدوان عسكري وممنهج ومنظم إلى تدمير الاقتصاد، وتفتيت سبل عيش السكان ووسائل الإنتاج. وتستمر انعكاسات هذا الحصار والعدوان المستمرّ في إلحاق أضرار إنسانية وجسدية ونفسية على السكان بشكل غير مسبوق. تقصد إسرائيل من هذه السياسات التحكّم في النشاط اليومي للسكان وإشغالهم في هموم الحياة اليومية بحثًا عن أسباب الرزق والعيش والحياة وسط أزمة إنسانية خانقة وبنية تحتية لم تعد تمتلك القدرة على الإنعاش، بهدف شلّ قدرتهم على الصمود والمقاومة. أدّت هذه الأوضاع بمنظماتٍ أمميةٍ عديدة، أبرزها الأمم المتحدة إلى التحذير بأن استمرار سياسات الاحتلال بهذا الأسلوب المنافي للإنسانية يحوّل القطاع لمنطقة غير قابلة للحياة بحلول العام 2020. يتجاوز عدد سكّان قطاع غزة الآن مليوني نسمة، ويتحكّم الاحتلال في أسلوب حياتهم اليومي ضمن نظام رقابة محكم وواسع النطاق، بات يُعرف بأنه أول "سجن مفتوح في العالم".
والحال هذه، سيما مع استمرار الانقسام السياسي الفلسطيني، وغياب استراتيجيات وطنية موحدة لمقاومة الحصار، تنادي منظمات إنسانية وتنموية عديدة باتباع آليات شاملة ومتكاملة للاستجابة للأزمات الناتجة عن الصراع طويل الأمد، ومن أبرزها نهج الرابطة الثلاثية (Triple Nexus) أو نهج الإنسانية والتنمية والسلام (HDPNx)، والتي تعني الربط بين الإغاثة والتنمية وبناء السلام. وهناك إقبال من بعض الفاعلين الدوليين، والمانحين، لدفع المنظمات الإنسانية في قطاع غزة إلى العمل ضمن هذا النهج، إلا أن طرحه في السياق الفلسطيني عمومًا يثير بعض الإشكالات (نذكرها لاحقًا). وقبل استكشاف بعض التحدّيات التي تواجه تطبيق نهج الرابطة الثلاثية في قطاع غزة حالة دراسية، نشير إلى أن هذه الورقة يمكن أن تفيد صنّاع القرار، فيما يتعلق بالرابطة الثلاثية، وحول مدى قابلية تنفيذ برامج تتخذ من الرابطة الثلاثية منهجا للعمل في قطاع غزة.
يعيش السكان في غزّة تحت نظام واسع من العقوبات المفروضة، بما في ذلك عزل القطاع عن النظام المالي الدولي والإقليمي
الأوضاع الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية
مع صعود حركة حماس إلى السلطة في قطاع غزة بين 10 و15 يونيو/ حزيران 2007 أعلن الاحتلال الإسرائيلي حصاره الكامل على القطاع، والذي أحبط سنوات من النشاط الإنساني والتنموي في منطقةٍ جرى تجريدها عن عمد من كل مقومات التنمية والازدهار الاقتصادي والمؤسساتي. وطوال العقود المنصرمة، نشطت أطراف فاعلة عديدة من الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، لتقديم المساعدات الخارجية للفلسطينيين، وتنوّعت نماذج الاستجابة للأزمات الناتجة عن الاحتلال، وذلك مع ما رافقها من خلل في آليات الإدارة داخل المؤسّسات الحكومية الفلسطينية. على الرغم من أن الواقع الإنساني كان سيئًا في غزة قبل الحصار، إلا أن دخول الحصار حيز التنفيذ بشكل كامل أدّى إلى تفاقم حالة التدهور للأوضاع الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية للسكان بنسبة تتراوح ثلاثة أضعاف على الأقل عما كان عليه الحال قبل الحصار. حاليًا، يعيش السكان في غزّة تحت نظام واسع من العقوبات المفروضة، بما في ذلك عزل القطاع عن النظام المالي الدولي والإقليمي، ما أدّى إلى تدمير وسائل التنمية المحلية، وزيادة التعرّض للانتكاسات المتعلقة بالمناخ، ونقصان المياه الصالحة للشرب، وخلل في مصادر الطاقة.
ويُلام الاحتلال الإسرائيلي على ما وصلت إليه الأوضاع الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعب الفلسطيني، نظرًا إلى سياساته الاستعمارية الرامية إلى تجريد الشعب الفلسطيني من موارده وأرضه وحقوقه، والتي حوّلت قطاع غزة إلى منطقةٍ تفتقر إلى كل مقوّمات الصمود وإعادة البناء. ونظرة إلى الواقع هناك تعد شاهدًا حيًا على ذلك، إذ وصل معدّل البطالة مع نهاية العام 2022 إلى حوالي 47%، بينما وصل المعدّل إلى 75% بين الشباب تحت سن 29 عاما. هذا إضافة إلى اعتماد حوالي ثلثي عدد السكان على المعونة الإنسانية. قبل أن تنفذ إسرائيل سياسة الحصار على غزة بلغ معدل البطالة حوالي 18-19% عام 2000، وحوالي 34% عام 2006 وفقًا لما ذكرته منظمات أممية عديدة.
جعلت هذه الأوضاع السكّان عرضة للانزلاق إلى خط الفقر، تترافق مع الهشاشة الاقتصادية، والضعف الحكومي للاستجابة للأزمات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية. تفيد تقارير الأمم المتحدة بأن حوالي 81% من السكان، 71% منهم لاجئون يعانون من الفقر، أو يعيشون تحت خط الفقر الوطني، ومع تقليص المساعدات الخارجية الموجّهة إلى قطاع غزّة يتوقع تفاقم ظاهرتي الفقر والبطالة بين السكان. وتصطدم المحاولات المتكرّرة للسكان في غزّة للخروج عن حالة الاعتماد على المساعدات الخارجية والفقر بخصوصيةٍ تتميز باستمرار واقع الاحتلال والحصار والإغلاق الكامل، حيث ما تزال إسرائيل ماضيةً في التحكّم في دخول المواد والبضائع الغذائية وخروجها، وفرض رقابة مشدّدة على حرية الحركة والتنقل، والسفر من قطاع غزة وإليه، وحرمان كثيرين من المرضى من العلاج في الخارج، ومنع الصيادين من الصيد، وحرمان المزارعين من الزراعة في المناطق الحدودية. ووفقًا لما ذكره تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) الصادر في أواخر عام 2020، قُدّرت التكلفة الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة خلال العقد الماضي فقط بحوالي 16.7 مليار دولار. وكان لوباء كوفيد أثر سلبي على النظام الصحي في البلاد، وتفاقم مع تعامل الاحتلال الإسرائيلي مع الأزمة، على أساس أنها أزمة أمنية ضاربةً عرض الحائط بالتزاماتها المفروضة عليها، وفقًا للقانون الدولي الإنساني باعتبارها قوة احتلال.
فشل الفلسطينيون في تحقيق انتقال سياسي مرن في إثر الانتخابات التشريعية التي أدّت إلى فوز حركة حماس عام 2006
علاوة على ذلك، ما يزال المجتمع الفلسطيني بكل مكوّناته يكافح لاحتواء الأضرار التي تعرّض لها القطاع عام 2021-2022 مع نقص حاد في التمويل لاحتواء أضرار العمليات العسكرية منذ عام 2009، يتجاوز حاجز الثلاثة مليارات دولار كأضرار مادية مباشرة فقط. لم يكن قطاع غزة محصّنا كذلك ضد تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، إذ أدّت الحرب، بالإضافة إلى التدهور الاقتصادي الذي يشهده العالم من أزمة في الطاقة والأمن الغذائي، إلى عزوف المانحين عن تمويل إعادة إعمار قطاع غزة.
وعلى صعيد الظروف السياسية، فشل الفلسطينيون في تحقيق انتقال سياسي مرن في إثر الانتخابات التشريعية التي أدّت إلى فوز حركة حماس عام 2006، ومن ثم سيطرتها على قطاع غزة وطرد السلطة الوطنية الفلسطينية منها، تترافق مع نقص الخبرة المطلوبة في القيادة والحكم لدى الحركة. وعمومًا، بعد توقيع تفاهمات أوسلو، لم تحقّق عمليات التدخل من الجهات الفاعلة المختلفة أية نتائج إيجابية على صعيد بناء السلام الشامل والمستدام في المنطقة، إضافة إلى اعتماد مقاربات بناء السلام الحالية على نهج إدارة النزاع وليس حله. ومع استمرار الحصار الإسرائيلي والعدوان العسكري المتكرّر والانقسام الفلسطيني، تبقى هذه المنطقة الساحلية هشّة جدًا أمام تحدّيات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما يتطلب البحث عن مقاربات جديدة للاستجابة لهذه الأزمات.
تحدّيات تنفيذ نهج الرابطة الثلاثية
يكمن التحدّي الأول حين يطرح مفهوم الرابطة الثلاثية في "تشوّه مفاهيم مثل التنمية والسلام"، خصوصًا في السياق الفلسطيني. لا بد من معرفة أن قطاع غزة قد تعرّض إلى عملية ممنهجة تتمثل في الإفقار التنموي، أدت إلى اعتماد المجتمع الفلسطيني على المساعدات الخارجية. هذا إضافةً إلى ما تثيره برامج بناء السلام من حساسية كبيرة ونقد لاذع داخل غالبية الجمهور الفلسطيني، كون الاحتلال الإسرائيلي يتبنّى نهجًا يعتمد على "إدارة الصراع"، من دون وجود أية بوادر حقيقية لبناء سلام دائم ومستدام في المنطقة. ووفقًا لمقابلةٍ مع موظف في إحدى المنظمات الإنسانية في قطاع غزة، أعرب مانحون عن اهتمامهم بالعمل ضمن الرابطة الثلاثية في مجالات مثل الصحة والتعليم، ولكن ذلك يفتقر إلى وجود تعاريف واضحة لهذه المفاهيم، فضلًا عن غياب خطط وبرامج تحدد كيفية تنفيذ هذا التوجّه وأهدافه. تعقد هذه الحقائق تنفيذ نهج يربط بين العمل الإنساني والتنمية والسلام.
شنت إسرائيل ما يقارب اثنتين وثلاثين حملة عسكرية ضد غزة، قتلت خلالها آلاف الأشخاص وهدمت آلاف المنازل، ودمّرت البنى التحتية بشكل كبير
يتعلق التحدّي الثاني بـ "حساسية الوضع الأمني" في قطاع غزة، نظرًا إلى حالة النزاع المسلح التي تعاني منها المنطقة لاستمرار إسرائيل "كسلطة احتلال" في تعريض أمن المدنيين والأعيان المدنية للخطر، بما في ذلك استمرار المقاومة المسلحة للفصائل الفلسطينية، أبرزها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، بالتزامن مع استمرار جريمة الحصار ضد السكان المدنيين. ويكافح قطاع غزّة بالفعل مع التعرّض المتكرّر للقصف، فمنذ عام 2003، ومع ظهور إرهاصات خطة فك الارتباط الإسرائيلي الأحادي الجانب عن قطاع غزة، وحتى عام 2022، شنت إسرائيل ما يقارب اثنتين وثلاثين حملة عسكرية ضد غزة، قتلت خلالها آلاف الأشخاص وهدمت آلاف المنازل، ودمّرت البنى التحتية بشكل كبير، كما تمنع إسرائيل إعادة إعمار القطاع، تاركةً عشرات الآلاف من سكّانه بدون مأوى، وعرضة للانتكاسات الاجتماعية والنفسية والصحية. لذا، فإن أحد العوائق الرئيسية أمام تنفيذ نهج الرابطة الثلاثية في السياق الفلسطيني تصوّر غياب الأمن في السياق الفلسطيني، وتكرّر موجات العنف، الأمر الذي قد يسبّب إحباطًا لدى المجتمع الدولي. يؤدّي هذا التحدي أيضًا إلى عزوف المانحين عن توجيه التمويل لبرامج تتعلق بالتنمية والسلام واقتصار المساعدات فقط على الجانب الإنساني الإغاثي.
ثالثًا، يتطلّب التوجه نحو تنفيذ الرابطة الثلاثية قرارًا سياسيًا على جميع المستويات الداخلية والإقليمية والدولية. على المستوى الداخلي، يتطلب نهج الرابطة الثلاثية التعاون مع المجتمع المحلي، منظمات وأفراد، والحكومة للسماح بتنفيذ مثل هذه البرامج. على الصعيد الإقليمي، يتطلب تنفيذ هذا النهج تعاونًا كبيرًا وفعالًا، لتوفير الضمانات لرفع الحصار عن قطاع غزة وممارسة الضغط السياسي. بينما على المستوى الدولي، يجب أن يستمر الدعم الدولي، وألا يتوقّف مهما كانت الظروف، وفي حين يجري تعامل المجتمع الدولي مع أزمات قطاع غزّة على أنها إنسانية، يجب البدء في مراعاة العوامل السياسية المعقدة في صراع الفلسطينيين مع الاحتلال الإسرائيلي.
التحدّي الرابع هو الحاجة الضرورية لتنفيذ نهج الرابط الثلاثية والاستجابة على مستويات عالية من التنسيق بين المنظمات الدولية والإقليمية والمنظمات المحلية والمانحين الدوليين، بالتزامن مع استمرار التمويل والدعم الخارجيين لتطوير استراتيجيات رابطة الإنسانية والتنمية والسلام. ويُلاحظ في سياق قطاع غزة، غياب التنسيق عالي المستوى بين الفاعلين الدوليين والإقليميين والمحليين، نظرًا إلى القيود المفروضة على غزّة، بسبب سياسة الحصار من جهة، والتماهي مع متطلبات وشروط الاحتلال الإسرائيلي في تقديم المساعدات الخارجية من جهة أخرى.
الشرط الأول للبرامج التي تدمج بين العمل الإنساني والتنمية والسلام، هو تصميمها بشكلٍ يتحدّى سياسات الحصار الإسرائيلي
مقاربات عملية لتنفيذ نهج الرابطة الثلاثية
لم يسجّل قطاع غزة تنفيذ برامج تعتمد الرابطة الثلاثية بوصفها نهجا في العمل، إلا في مجال الصحة وبنسبة ضئيلة جدًا، مقارنةً بحجم التمويل المخصّص للمجال الإنساني. في السياق الفلسطيني المعاصر، حيث تتداخل عوامل عديدة للتأثير السياسي العالمي والتدخل الدولي، يجب أن ينصبّ التركيز على تحديد أولويات الدعم الخارجي، بحيث تتوافق نماذج الاستجابة للأزمات مع دعم الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. تمثل المعركة ضد انتهاكات حقوق الإنسان ودعم العدالة الانتقالية والحرية مدخلًا مهمًا. علاوة على ما سبق، صحيحٌ أن الظروف الإنسانية في قطاع غزة تدفع إلى التركيز على تقديم تدابير طارئة، من شأنها تخفيف معاناة الأشخاص المتضرّرين من الصراع، ولكن هناك حاجة لتوجيه الدعم الخارجي لتعزيز القدرة على الصمود والتنمية المحلية على نحو طويل الأمد ومستدام، مع التفكير في مقارباتٍ جديدةٍ لبناء السلام في المنطقة تراعي الجذور العميقة للصراع، واحتياجات "الهوية والأمن والقبول والاعتراف"، مع العمل على مقارباتٍ تراعي جوانب اختلال القوى بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ومعالجتها ضمن منهج شامل ومتكامل.
ومع ذلك، سوف يكون البحث عن تصوّر لما تعنيه التنمية والسلام في قطاع غزّة على درجة عالية من الإشكالية، إذ يعتقد بعضهم بأن موضوعي التنمية والسلام دخيلان على المجتمع الفلسطيني، وآخرون يعتبرون مثل هذه المفاهيم وهما، حيث يتم تصوّر التنمية والسلام في مجتمع تحت سلطة الاحتلال أشبه بالأمر التعجيزي، حيث يتوقف نجاح ذلك بشكل أساسي على إنهاء الاحتلال، فضلًا عن أن الاحتلال قد فكّك المفهومين من خلال سياسة الإفقار التنموي وتجميد عملية السلام التي تحرم المجتمع الفلسطيني من موارده واقتصاده ووجود مؤسسات قوية، وسياسة إدارة الصراع التي تجعل من السلام الشامل والمستدام أمرًا مستحيلا أيضًا. كما أن عودة المانحين إلى دعم قضايا الإغاثة قصيرة الأمد في قطاع غزّة كانت نتيجة حتمية لتشوّه مفهومي التنمية والسلام في سياق الاحتلال الإسرائيلي. لذلك، يمكن القول إن الشرط الأول لمثل هذه البرامج التي تدمج بين العمل الإنساني والتنمية والسلام، هو تصميمها بشكل يتحدى سياسات الحصار الإسرائيلي.
لا بد من وجود نهج جديد للمجتمع الدولي في الاستجابة للأزمات الناجمة عن تكرار العدوان وطول أمد الحصار والاحتلال
ومع استمرار الجدل بشأن مدى نجاعة المساعدات الخارجية في تحقيق التنمية والسلام في ضوء هذه الظروف التي تزيد سوءًا يومًا بعد يوم، لا يعني وجود الاحتلال فقدان القدرة على وجود مؤسسات قوية، سواء في الصحة أو التعليم أو القضاء أو حتى على صعيد الاقتصاد الوطني، فعند النظر إلى سياق جنوب أفريقيا، وفي ظل سياسات الفصل العنصرية، إلا أنهم كانوا يتمتّعون بمؤسّسات قوية إلى حد ما، وهنا يأتي التحدّي في الحالة الفلسطينية. ولاستيعاب الحساسيات السياسية التي قد تبرُز في السياق الفلسطيني، حين مناقشة مفاهيم التنمية والسلام، يمكن توجيه هذه الجهود عبر منظمات المجتمع المدني الفلسطينية والمنظمات المحلية، بما في ذلك عبر دعم إنشاء مراكز مجتمعية، ومن خلال إدماج الجيل الفلسطيني الجديد. نظرًا إلى الخبرة الطويلة التي تتمتع بها هذه المنظمات، سيؤدّي القيام بذلك إلى تسهيل التعامل مع الخصائص المميزة للسياق الفلسطيني، بما في ذلك القدرة على مراعاة (واستيعاب) الحساسيات الثقافية والاجتماعية التي قد تنشأ، واكتساب منظور من الداخل، حول كيفية تنفيذ برامج الرابطة الثلاثية في السياق الفلسطيني.
خاتمة
تركّز معظم المشاريع والبرامج الحالية في قطاع غزة على مقارباتٍ إنسانية تتمثل في تخفيف معاناة الأشخاص المتضرّرين، ولكن حتى هذه البرامج لم تعد تسمح بتوفير الحد الأدنى من مقوّمات الصمود. فضلًا عما تشهده هذه الأيام من معاناة المانحين من إعياء مالي شديد، وضغط اقتصادي داخلي، بسبب الصدمة التي تعرّض لها النظام الإنساني العالمي في إثر انتشار وباء كورونا، وتوجيه الدعم الدولي، في الآونة الأخيرة، إلى أزمات أخرى، مثل الأوكرانية والسورية واليمنية، الأمر الذي أدّى إلى تدني حجم الدعم الخارجي للأزمات التي يعاني منها القطاع. كما يستمر التباعد بين المجتمع الدولي وحركة حماس من جهة، وهذه الأخيرة والسلطة الوطنية الفلسطينية من جهة أخرى، ما يشير إلى تحدّيات كبيرة على مستوى تنفيذ برامج الرابط الثلاثية في ضوء سياق صراع معقد وطويل الأمد.
وفي ردّه على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، كان المجتمع الدولي شديد التركيز على الحاجة إلى إنهاء المعاناة الإنسانية، من دون الضغط السياسي على إسرائيل لإنهاء الحصار أو تحدّيه، بينما، في الوقت نفسه، يفشل نهج المجتمع الدولي في عكس سياسة الإفقار التنموي في غزة، ومعالجة جذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإلزام إسرائيل بالتخلي عن سياسة الفصل العنصري المفروض على كل أنحاء فلسطين المحتلة. تحدّ مثل هذه الإشكالات أيضًا من وجود مقاربات واضحة وشاملة لمشاريع التنمية وبناء السلام في المنطقة. ذلك كله يجعل من طرح نهج الإنسانية والتنمية والسلام بحاجة إلى تفكير عميق، سيما في ضوء اختلاف وجهات النظر لكل من طرفي الصراع حول ما تعنيه مثل هذه التدخلات. ومع استمرار الاحتلال الإسرائيلي في التفنّن في ابتكار وسائل وأشكال متعدّدة ومتنوّعة من أجل السيطرة والتحكّم في الموارد الطبيعية التي يمتلكها الفلسطينيون، بالتزامن مع استمرار عوامل الإفقار التنموي، لا بد من وجود نهج جديد للمجتمع الدولي في الاستجابة للأزمات الناجمة عن تكرار العدوان وطول أمد الحصار والاحتلال.
كاتب وباحث فلسطيني في القانون والعلوم السياسية والنزاعات الدولية وحل النزاعات