تداعيات الأزمة الأوكرانية على المانحين في فلسطين وسورية
كاتب وباحث فلسطيني في القانون والعلوم السياسية والنزاعات الدولية وحل النزاعات
تشهد المنطقة العربية، منذ اندلاع الربيع العربي عام 2011، صعودًا حادّا للأزمات التي كانت لها آثارٌ مركبةٌ سياسية، واجتماعية، واقتصادية، ونتجت عنها تداعيات إنسانية بالغة الخطورة والتعقيد. أدّى صعود الثورات المضادّة، وانتشار العنف والنزاعات المسلحة، والحروب بالوكالة، وتصاعد الإرهاب في المنطقة العربية، بدءًا من العراق واليمن وليبيا وسورية، إلى تفاقم أعداد اللاجئين والنازحين. وقد زادت جائحة كورونا العامين المنصرمين الطين بلة، وأثارت مخاوف عديدة بشأن كيفية مد المدنيين المتأثرين من النزاع بالمعونة، في ظل الأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم، ونظرًا إلى إجراءات الحظر التي فرضت على مستوى عالمي، وأحدثت اضطرابًا عالميًا في نظام المعونة الإنسانية المضطرب أصلًا. ولم تنته المنطقة من آثار هذه الأزمات، حتى أعلنت روسيا حربها على أوكرانيا، والتي ضاعفت من "الإعياء المالي" الذي يعاني منه النظام الإنساني العالمي، ما يشير إلى احتمالية تحوّل تركيز بعض الفاعلين الدوليين لتمويل الأزمة الإنسانية التي خلفها الصراع الروسي - الأوكراني، وتقليص حجم التمويل المخصّص للاستجابة لأزمات المنطقة العربية، ولا سيما في الاستجابة للأزمات الإنسانية في في كل من قطاع غزة والشمال السوري.
غياب المنظور طويل الأمد
وقع قطاع غزة تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي في يونيو/ حزيران 1967، إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية، ما نتج عنه تدهور كبير في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية في هذه المناطق. ومع بدء الحصار الكامل على غزة عام 2006، وما شهدته من عمليات عسكرية نفذها الاحتلال الإسرائيلي بطريقة منظمة وممنهجة وخارج منطق الأخلاق وانتهاكًا للقانون الدولي، أصبحت هذه المدينة الساحلية بالكاد قابلة للحياة. بدوره، يعاني الشمال السوري، نتيجة الصراع والانقسامات، من أزمة إنسانية حادّة. خلال أكثر من عقد من الصراع المفتوح، تجسّدت أهوال الحرب في ترك الملايين من النازحين واللاجئين وسط ظروفٍ اقتصادية واجتماعية كارثية، وزادت حدّتها مع دفع الاتحاد الروسي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مستخدمًا "الفيتو"، على إغلاق ثلاثة ممرّات إنسانية لإدخال المساعدات الإنسانية، ما أدّى إلى تعقيد دخول المساعدات إلى الشمال الغربي، وتوقف تدفقها باتجاه الشمال الشرقي، وفقًا لما صرحت به منظمة هيومن رايتس ووتش في منتصف الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، دفعت هذه الأوضاع المتدهورة بالفاعلين الدوليين إلى توجيه المنح والمساعدات الخارجية إلى الاستجابة للأزمتين الفلسطينية والسورية.
تستخدم المعونة الإنسانية، أحياناً، وسيلة ضغط على أحد أطراف النزاع للقبول بتسوية تفاوضية
وفي الوقت الذي يخضع فيه أكثر من مليوني نسمة لحصار خانق في قطاع غزة، نجد أن هناك فجوة كبيرة ما بين تعهدات إعادة الإعمار التي قدّمت بعد الحروب الخمس التي شنّتها إسرائيل بدم بارد والمبالغ المدفوعة لإعادة الإعمار. ويحصل ذلك كله وسط مؤامرة صمت جماعية من المانحين الدوليين عن تحدّي سياسات الحصار، وخضوعهم للشروط التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي، في ما يتعلق بتحكّمه الكامل في تدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع، على الرغم من أن مثل هذه الأفعال تدخل ضمن سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. ولو ذهبنا إلى الشمال السوري، سنجد أن اللاجئين الذين فرّوا بسبب الصراع يعيشون تحت ظروف إنسانية قاسية ومريرة، ومكبّلين بقيودٍ لا حصر لها، ومستقبلهم مجهول. ويُعزى أحد أسباب ذلك إلى سياسات المانحين وقراراتهم التي حرمتهم، طوال سنوات الصراع، من التنمية والتعافي خلال إقامتهم في المخيمات أو داخل المجتمعات المضيفة. تفتقر مشاريع الاستجابة الإنسانية في الشمال السوري إلى المنظور طويل الأمد، تحت شعارات مثل دعم عودة اللاجئين، مع أنّ تنفيذ مشاريع تضع نصب أعينها الاستدامة والتنمية للأشخاص المتأثرين بالصراعات لا يتنافى مع بقاء حقهم في العودة، متى توفرت الشروط اللازمة لذلك.
تعكس الحالتان الفلسطينية والسورية الفشل الذريع لبرامج المعونة الدولية، فتبنّي منظور قصير الأمد حين تقديم المساعدة الإنسانية يجعل من الحلول المقدمة غير مستدامة، وقليلة الأثر، وربما ينتج عن هذه المنح تأثير سلبي يسهم في تأجيج النزاع، أو تفاقم الحالة الإنسانية بدلًا من تخفيفها، وذلك بارز في الحالة التي يصبح فيها المجتمع معتمدًا بشكل كامل على المعونة الإنسانية. وهو ما يطرح تساؤلاتٍ عديدة في الحالتين الفلسطينية والسورية، تحديدًا في ضوء غياب أي حل سياسي يلوح في الأفق بشأنهما. فيجب البدء بالتفكير في سياسات تدعم المجتمعات المتضرّرة ضمن منظور طويل الأمد، قائم على التمكين وعلى الحقوق، وبشكل خاص يتحدّى سياسات الاحتلال والاستبداد.
انعكاسات الأزمة الروسية - الأوكرانية
تلعب المنطقة العربية دورًا هامًا في السياسة العالمية، نظرًا إلى موقعها الاستراتيجي المميز، وتقاطعها مع الأجندات السياسية لدول أوروبية عديدة والولايات المتحدة. وتجد هذه الدول في المنح الخارجية هامشًا لترويج صورتها داعما إنسانيا محبا للسلام أمام الشعوب العربية، إلى جانب ما يمكن أن توفره هذه المنح من مجال للتدخلات السياسية، إذ تستخدم المعونة الإنسانية، أحيانًا، وسيلة ضغط على أحد أطراف النزاع للقبول بتسوية تفاوضية، كما الأمر في الملفين الفلسطيني والسوري. ومع أن التنمية والانتقال من الحرب إلى السلام، وعلى الأقل تخفيف المعاناة الإنسانية للمتضرّرين من الأزمات، تمثل أهدافا رئيسية للاستجابة الإنسانية، إلا أنه، على الرغم من ذلك، يلاحظ في أن هذه الاستجابة تحوّلت إلى وبالٍ في بعض الأمثلة، بدلًا من مساهمتها في التعافي والإنعاش للمجتمعات المتأثرة بالأزمات. ويبدو أن الاصطفافات السياسية في المنطقة تجاه الصراع الروسي الأوكراني ستقرّر توجهات الدعم الإنساني المقدّم من الجهات الفاعلة في الغرب، ونظرًا إلى السياسة العالية المتداخلة في أزمات المنطقة العربية، والتعرّض المستمر للتدخلات الإقليمية والدولية.
والحال هذه، أعلنت جهات عديدة، مانحة ومنظمات إنسانية، عن وجود أزمة حقيقية في التمويل، بسبب ازدياد أعداد اللاجئين والنازحين الأوكرانيين الذين تجاوزوا ستة ملايين لاجئ، وثمانية ملايين نازح، نتيجةً للغزو الروسي، ومن أبرز هؤلاء المانحين الرئيسيين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، الذين التزموا فترة طويلة بتقديم المعونة الخارجية لدول المنطقة.
شهدت الاستجابة الإنسانية للسوريين تراجعًا خلال العامين المنصرمين، سواء في الشمال السوري، أو حتى على صعيد اللاجئين السوريين في تركيا ولبنان
وقد بدأت انعكاسات الأزمة الأوكرانية في الظهور على الساحة الفلسطينية، عندما أعلنت وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) سابقًا عن نيتها نقل جزءٍ من خدماتها المقدّمة للاجئين الفلسطينيين إلى منظمات دولية أخرى، بسبب نقص التمويل الذي تعاني منه، في خطوة وُصِفت بأنها تصفية لقضية اللاجئين، التي تتصدر قائمة قضايا الحل النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فضلًا عن اعتبار بعضهم هذه التصريحات واحدة من آثار الأزمة الأوكرانية، والتي تنذر بتداعيات مستقبلية أخرى على المنطقة. وتوقع محللون أن الأزمة الأوكرانية ستكون لها آثار بارزة في تراجع ترتيب الملف الفلسطيني على جداول أعمال الحكومات المانحة والمؤسسات الدولية ووسائل الإعلام العالمية لصالح الأزمة الأوكرانية، إلا أن ذلك يفتح الباب مجدّدًا أمام التفكير في ابتكار وسائل جديدة لفكّ الاعتماد على المعونة الخارجية. والحقيقة أن الاحتلال الإسرائيلي على مدار الأعوام الماضية قد عمد ضمن سياق الاستعمار الاستيطاني، وفي ظل تماهٍ كامل من الغرب، إلى تنفيذ خطط عملت على تفتيت التنمية في فلسطين وتفكيكها، عبر تدمير الاقتصاد الفلسطيني، وجعله تابعًا للاقتصاد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس، ومنفصلًا عنه في قطاع غزة، ومعتمدًا على المعونة الخارجية. ومع ذلك، يضع تحوّل اهتمامات المانحين لصالح الاستجابة للأزمة الأوكرانية وبقاء المعونة الخارجية، بحدها الأدنى، الاقتصاد الفلسطيني أمام تحدٍ كبير، وفي الوقت نفسه، يمثل فرصة لوضع استراتيجية فلسطينية موحدة لمقاومة هذه التبعية الاقتصادية التي طالما جرى استخدامها لإخضاع الفلسطينيين، وإغراقهم في هموم حياتهم اليومية والمعيشية، على حساب مشروع التحرّر الوطني.
وحذّر محللون من استخدام الأزمة السورية ورقة ضغط بيد الاتحاد الروسي، من خلال تصعيد العمليات العسكرية في سورية، وبخاصة في إدلب، وما قد يتبع ذلك من موجات لجوء ونزوح أخرى، ستعقّد من الأزمة الإنسانية في ظل تراجع الدعم الدولي، وذلك بهدف الضغط على المجتمع الدولي لتقليل وطأة الخسائر التي تعرّضت لها روسيا بسبب العقوبات المفروضة عليها من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. والحقيقة أن روسيا ليست وحدها في معادلة المصالح هذه، فلطالما وصفت تدخلات الغرب في سورية بالبراغماتية، إذ عملت هذه الدول على استخدام المساعدات الإنسانية والدعم المقدّم للاجئين ميزة تحقق لها بعض المصالح، ضمن لعبة التنافس السياسي مع روسيا وحلفائها. مع مرور الوقت، يصبح المتضرّرون من الصراع في المناطق السورية أكثر تضرّراً، وأكثر شعورًا بعدم الأمان، وتتفاقم عوامل عدم الاستقرار. وقد شهدت الاستجابة الإنسانية للسوريين تراجعًا خلال العامين المنصرمين، سواء في الشمال السوري، أو حتى على صعيد اللاجئين السوريين في تركيا ولبنان. وحتى اللحظة، يستمر تراجع الاهتمام الدولي بالأزمة السورية، بالتزامن مع ضعف الآليات الحالية المتّبعة من المجتمع الدولي في التعامل مع أزمة اللجوء والنزوح، مع استمرار العقبات المؤسساتية الناتجة عن حساسية الصراع. وقد حذرت سابقًا منظمات دولية عديدة من ضعف الاستجابة الإنسانية لأزمة السوريين، ما ينذر بارتفاع مستويات انعدام الأمن الغذائي وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والصحية والنفسية للسكان.
توقعات بأن تقليص التمويل سيكون تدريجيًّا على المنطقة العربية، وبالتحديد على الاستجابة الإنسانية لكلٍ من الأزمتين الفلسطينية والسورية
وقد أثار اهتمام الولايات المتحدة والدول الأوروبية غير المسبوق بأزمة اللاجئين والنازحين الأوكرانيين، انتقاداتٍ على نطاقٍ واسع بسبب الاهتمام الكبير في التصدّي للأزمة الأوكرانية على حساب الحروب والأزمات الأخرى في العالم العربي وما وراءه. ولكن، مع كل ما يحصل من تعقيدات، فإن هذه الحروب والأزمات لا تعفي المجتمع الدولي من مسؤولياته بحماية المدنيين وتقديم الدعم الإنساني، ولا بد من التخلي عن ثقافة ازدواجية المعايير والانتقائية، ولا سيما من الولايات المتحدة والعالم الأوروبي، والتعامل وفقًا لمعيار واحد مع الأزمات الإنسانية.
نقص تدريجي
تداعيات الأزمة الروسية - الأوكرانية على توجهات المانحين الدوليين المرتبطة بتقليص التمويل للاستجابة لأزمات المنطقة العربية وشيكة، ولا يمكن تفادي وطأتها على اللاجئين والمتضرّرين من الأزمات. وهناك توقعات بأن تقليص التمويل سيكون تدريجيًّا على المنطقة العربية، وبالتحديد على الاستجابة الإنسانية لكلٍ من الأزمتين الفلسطينية والسورية، منعًا للمفاجأة التي قد تحصل للمستفيدين من المنح الخارجية، وزيادة السخط الشعبي العربي على الدول الغربية المانحة. ومع ذلك، هناك فرصة تلوح في الأفق لزيادة التعاون العربي - العربي في هذا المجال، فيما لو توافرت الإرادة السياسية، وتحديدًا من دول مجلس التعاون الخليجي المانحة، لدعم مشاريع التنمية المستدامة وإعادة الإعمار ومساعدة اللاجئين والنازحين بشكل أكبر ومستدام، وهي فرصة قد تفتح الباب للتفكير في تداعيات الصراع الروسي - الأوكراني في أزماتٍ أخرى، مثل أزمة الغذاء والتغير المناخي وغيرها من الأزمات التي تهدّد المنطقة وزيادة التعاون العربي بشأنها. على المستوى المحلي، يجب البدء بالتفكير في الاستثمار في قدرات المجتمعات المحلية، بما في ذلك القطاع الخاص، ودعمه لتأسيس قواعد للتنمية في المجتمعات العربية، بدلًا من تحويلها إلى مجتمعات معتمدة على المعونة الخارجية بشكل كامل، وتفكيك قدرتها على التعافي والانتعاش بسبب سياسات المانحين المدفوعة بقوالب وخطط جاهزة وتصوّرات نمطية لا تتناسب مع حال المجتمعات العربية المجتمعات المتأثرة بالأزمات والنزاعات، وسياقها وثقافتها.
كاتب وباحث فلسطيني في القانون والعلوم السياسية والنزاعات الدولية وحل النزاعات