الاغتيال الثاني للمهدي بن بركة
حتى بعد مرور أكثر من 56 سنة على اغتياله، ما زال شبح المعارض اليساري المغربي المهدي بن بركة يقضّ مضاجع أعداء فكره التحرري. هذا ما أكدته ردود الفعل السخيفة على تقرير قديم أعادت نشره صحيفة الغارديان البريطانية في ملحقها الأسبوعي "ذا أوبزرفر" نهاية الأسبوع الماضي. والمفارقة أنّ أغلب ردود الفعل الدنيئة صدرت من المغرب، وعن جهاتٍ معروفةٍ بدفاعها الانتهازي عن الخط الرسمي للسياسة المغربية. والواقع أن التقرير لم يأت بجديد على ما سبق أن نشرته مجلة فرنسية يمينية عام 2007. ومن دون التشكيك في مهنية واحدة من أكثر الصحف صدقية في العالم، إلّا أنّ إعادة مؤسسة معروفة بمهنيتها وجدّيتها، مثل "ذا غارديان"، نشر تقرير قديم سبق أن نشر وانتقد في حينه، من دون أن تأتي بجديدٍ يبرّر إعادة النشر، يطرح أكثر من سؤالٍ بشأن التوقيت والمستفيدين من تشويه صورة مناضلٍ ما زالت أسرته تناضل منذ اختفائه في باريس في ظروف غامضة عام 1965، للكشف عن مكان وجود رفاته!
ما الذي جاء به تقرير "ذا غارديان"؟ يقول، وقد بُني على وثائق للمخابرات التشيكوسلوفاكية، رفعت عنها السرّية منذ انهيار المعسكر الشرقي وانقسام تشيكوسلوفاكيا نفسها إلى دولتين عام 1993، إنّ المهدي بن بركة، أحد رموز التحرّر في العالم الثالث في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، كان جاسوساً لمخابرات هذا البلد الشيوعي الصغير. ويبني الصحافي كاتب التقرير روايته كلها على استنتاجات باحثٍ من جامعة براغ استطاع الاطلاع على أرشيف المخابرات التشيكوسلوفاكية، ليكتشف أنّ المعارض المغربي والعالمثالثي كان مجرّد "جاسوس" لمخابرات بلد شيوعي، يتلقى مقابلاً هزيلاً نظير "خدماته" الجاسوسية. وتعيد "ذا غارديان" نشر المعلومات نفسها التي سبق أن نشرت في مجلة فرنسية قبل نحو 15 سنة، من دون أن تلقى آنذاك أي اهتمام. لأنّ التقرير، لا القديم والجديد، لم يأتِ بأيّ شيء ملموس، سواء كان وثيقة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية، تثبت "عمالة" بن بركة للمخابرات التشيكوسلوفاكية، على الرغم من ادّعاء الباحث بأنّه اطلع على نحو 1500 من الوثائق المخابراتية السرية!
الحقيقة التي لم يذكرها تقرير "الغارديان" أن بن بركة هو الذي كان موضوع التجسّس من عدة أجهزة
يُضاف إلى ذلك كم التناقضات الكبير التي حفل بها تقرير "الغارديان"، فهو يدّعى أنّ المهدي بن بركة كان يتلقى مقابلاً زهيداً نظير خدماته "الجاسوسية"؛ راتب سنوي يعادل 1500 جنيه إسترليني أو مقابل تذكرة طائرة ورحلة عطلة ترفيهية! والواقع أنّ المهدي بن بركة، رئيس أول مجلس استشاري في المغرب بعد الاستقلال، والشخصية الأبرز في المغرب، والقريب من الملك الراحل محمد الخامس، وأستاذ ابنه الملك الراحل الحسن الثاني، لو كان هدفه هو المال لما قرّر نفي نفسه في فرنسا، أو لالتمسه من زعماء العالم الذين كان يلتقيهم وكانت تربطه بهم علاقاتٌ نضاليةٌ قوية في الجزائر ومصر والعراق وكوبا ودول أوروبية شرقية وأفريقية تحرّرية. وحتى الصين التي يدّعي الباحث الذي استند تقرير "ذا غارديان" إلى بحثه أنّ بن بركة تسلّم منها عشرة آلاف دولار، يتناقض مع نفسه عندما يقول إنّ المخابرات السوفييتية طلبت من نظيرتها التشيكوسلوفاكية الاستغناء عن خدمات المهدي بن بركة، باعتبار أنّه "عميلٌ مزدوج"! ويقول المنطق إنّ أيّ جهازٍ يدرك أنّه يتعامل مع "عميل مزدوج" يعمل كلّ ما بإمكانه للحفاظ عليه وتوظيفه لخدمة أهدافه، وليس التخلّي عنه، لأنّه قد ينقلب على الجهة التي تخلّت عنه.
تقرير "ذا غارديان" مسنود بروايةٍ واحدةٍ لشخصٍ، قال لأحد المواقع المغربية إنّه سبق له أن عرض محتويات بحثه نفسها على عدة صحف فرنسية، لم تتفاعل معه، إنّ المهدي بن بركة مناهض الاستعمار والإمبريالية، لم يكن سوى جاسوس بمقابل زهيد لدى واحدة من الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفييتي البائد، لكنّ الحقيقة غير ذلك. المعروف عن بن بركة، من أقرب الذين رافقوه في منفاه، أنّه كان مناضلاً أممياً طبقت شهرته الآفاق، يسري دم الثورة في عروقه، كثير التنقل والترحال بين عواصم الدول، له صداقات مع كبار رجال عصره في كوبا ومصر والجزائر والهند والصين وأفريقيا. وعندما اختطف في باريس عام 1965 كان بصدد إعداد أكبر مؤتمر لدول القارات الثلاث الأفريقية والآسيوية واللاتينية، وكان هو منسّق المؤتمر الذي عقد في هافانا في يناير/ كانون الثاني 1966، أي ثلاثة أشهر بعدما اختطفه في باريس عملاء من المخابرات المغربية والفرنسية، وبتواطؤ من المخابرات الأميركية والإسرائيلية، فكيف يستقيم أنّ الرجل الذي كان يقضي معظم وقته مسافراً عبر القارّات الثلاث يقبل مقابلاً نفعياً تذكرة سفر مقابل خدماته التجسّسية؟ وكيف للرجل الذي كان يعتبر زعيم التحرّر في العالم الثالث، ونصير الشعوب المستعمرة، أن يتحوّل إلى جاسوس صغير بمقابل مالي زهيد، وهو الذي زهد في منصبه البرلماني في المغرب، ورفض كلّ إغراءات القصر الملكي في المغرب للعودة إلى بلاده من دون ضماناتٍ تسمح بانفتاح ديمقراطي حقيقي، يؤدّي إلى بناء الدولة المغربية على أسس متينة؟
يدّعي تقرير "الغارديان" أنّ بن بركة كان يتلقى نظير خدماته "الجاسوسية" راتباً سنوياً يعادل 1500 جنيه إسترليني
الحقيقة التي لم يذكرها تقرير "ذا غارديان" أن بن بركة هو الذي كان موضوع التجسّس من عدة أجهزة، من استخبارات بلده التي كانت تلاحقه، ومن الاستخبارات الفرنسية التي كانت ترى فيه عدوها الأول بحكم مناهضته الاستعمار الفرنسي في المغرب وفي عدة دول أفريقية، ومن الاستخبارات الأميركية التي كانت تتابع تحرّكاته لبناء تحالف بين دول العالم الثالث مناهض للإمبريالية، ومن أجهزة المخابرات التابعة للاتحاد السوفييتي والدول التي كانت تحوم في فلكه، وكانت مرتابةً من وجود حركة عالمثالثية مستقلة عن تأثيرها، خصوصاً في أوج الاستقطاب الذي كانت تفرضه الحرب الباردة. وأخيراً، كان المهدي بن بركة محارَباً من جهاز المخابرات الإسرائيلية المتشابكة علاقة "تعاونه" مع المخابرات المغربية، وفي الوقت نفسه، غير المرتاح لزيارات بن بركة إلى مصر والعراق والجزائر ولبنان، بهدف تطويق التناقضات بين العواصم العربية التي كانت تحكمها أنظمة تقدّمية بمعايير ذلك الزمان، كانت تعتبر إسرائيل عدوّها الأول.
الحديث عن المسار النضالي لهذا الرجل الفذ الذي قاد حركة التحرير في بلاده، وكان يحلم ببناء حركة تحرّرية عالمية بين دول العالم الثالث، لن يستوفيه مقال سيّار سريع. وإذا كان من فضل لتقرير "ذا غارديان" على بن بركة فهو التذكير، مرة أخرى، بالمطالبة برفع السرّية عن الوثائق التي تحتفظ بها أجهزة مخابرات دولية، خصوصاً في فرنسا وإسرائيل وأميركا والمغرب، لمعرفة حقيقة اختفائه الغامض، ومآل رفاته الذي لم يظهر لها أيّ أثر. لقد عملت أجهزة كلّ هذه الدول مجتمعة على إخفاء بن بركة وإلى الأبد، لكنها لم تنجح في القضاء على فكره التحرّري، أو على محو اسمه من الذاكرة الجماعية المغربية الموشومة بما قدّمه من تضحياتٍ لشعبه. لذلك، لا يجب أن نستغرب أن يستقبل بعضهم اليوم خلاصات تقرير غير مهني مبني على معلومات استخباراتية غامضة ومتناقضة ليحاول يائساً اغتيال بن بركة رمزياً! من فشل، قبل أكثر من نصف قرن، في اغتيال معارض أعزل مسالم كان يمشي في شوارع باريس ويجلس في مقاهيها، مثل كلّ الناس، من دون حراسة أو احتياط، سيفشل حتماً في اغتيال الرصيد الرمزي لفكر هذا المناضل الذي سيبقى خالداً ما دام في هذا العالم ظلم واستغلال واضطهاد. فمن أجل محاربة هذه الآفات خرج بن بركة من بلاده في بداية ستينيات القرن الماضي مناضلاً ولم يعد، لكنّ فكره ما زال حاضراً، وإلى أن تتحقّق شروط عودته الرمزية، سيظل هذا الفكر حياً في المخيلة الجماعية لشعبه.