الاقتصاد المصري في لحظته الحرجة
تقدّم رئيس البنك المركزي المصري، طارق عامر، قبل أيام، باستقالته من منصبه. وسواء استقال أو أقيل، فإن توقيت رحيله يأتي في لحظة حرجة يواجه فيها الاقتصاد المصري أزمة لم يواجهها منذ عهد محمد علي، وصفها خبراء عديدون بأنها تفوق أزمة الديون في عهد الخديوي إسماعيل.
منذ اللحظة الأولى، اختار عبد الفتاح السيسي ومجموعته في السلطة خيار الدعاية وترويج مشاريع وهمية، لا خيار الإصلاح الحقيقي أو التنمية، فقد اعتمد الرجل على تضخيم إنجازاته من خلال إطلاق دعاية إعلامية تتعلق بقدرته على سرعة بناء طرق وكباري (جسور) عديدة إلى جانب مدن جديدة، في مقدمتها العاصمة الإدارية، ثم حفر قناة السويس الجديدة حسب توصيف النظام، وإن كانت في الواقع ليست كذلك، معتمدا في ذلك كله على سياسة تقوم على الاقتراض من صندوق النقد الدولي، ودول مختلفة عديدة. على أنه لم يكن المقصد من هذه الدعاية المصحوبة بسياسة الاقتراض عملية تنمية أو تقوية للاقتصاد المصري، من خلال دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، والدفع إلى زيادة الإنتاج المحلي، بل كان الهدف تلميع صورة السيسي أنه منقذ مصر وباني نهضتها الحديثة على طريقة محمد علي.
والواقع أن الاقتصاد لا تتم تنميته بالدعاية أو القروض، فكانت العملة المصرية أولى ضحايا هذه السياسات غير المسؤولة، فمع اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قروض، كان لا بد من الرضوخ لشروطه، وفي مقدمتها تعويم العملة الوطنية، ورفع الدعم المقدّم من الدولة. نتيجة هذه الشروط، فقد الجنيه المصري الكثير من قيمته، ما أدّى إلى تدخل البنك المركزي أكثر من مرّة لرفع سعر الفائدة من أجل توفير العملة الأجنبية، وإيقاف عملية الدولرة (بيع سعر الدولار في السوق السوداء) من أجل تسديد تلك القروض وفوائدها المستحقة.
أدّى رفع سعر الفائدة إلى زيادة معدلات التضخّم، وبالتالي، ارتفاع أسعار السلع المختلفة وسحق المواطن المصري تحت أقدام الغلاء، وزيادة معدّلات الفقر، كما أنه أدّى إلى هروب الأموال نحو الأسواق الغربية عقب إجراء هذه الزيادات القياسية على أسعار الفائدة، وعلى العملات الرئيسية وفي مقدمتها الدولار. ومع توسّع الحكومة في الاقتراض الخارجي خلال الشهور القليلة الماضية، وتراجع الإيرادات الدولارية للدولة، والاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي بمعدلات قياسية، وحصول الحكومة على موارد خارجية جديدة لتمويل واردات الحبوب والقمح والوقود وغيرها من السلع التموينية والأساسية، اقترب الدين الخارجي لمصر من 165 مليار دولار، وصاحب هذا انخفاض في سعر العملة المصرية مقابل الدولار، فأصبح الدولار يساوي حوالي 16 جنيها مصريا في مارس/ آذار الماضي، لكنه وصل حاليا إلى ما يقارب 21 جنيهاً، وهناك توقعات بتوجه البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة مرة أخرى وتعويم الجنيه بصورة أكبر، ليتجاوز سعر الدولار 25 جنيها.
الاقتصاد المصري وصل إلى نقطة حرجة، وأصبحت الديون تفوق ثلثي الإنتاج المحلي
ذكرت "بلومبيرغ"، في تقريرها المنشور منذ أسابيع، أن مصر تحتاج 41 مليارا لسد عجز الحساب الجاري وخدمة الديون المستحقة للقروض بنهاية عام 2023، أي بما يعادل 656 مليار جنيه، حينما كان سعر صرف الدولار يعادل 16 جنيها في مارس/ آذار الماضي. والآن، ومع الانخفاض المستمر لقيمة الجنيه المصري، ليصل إلى 21 جنيها، ارتفع هذا المبلغ الإجمالي ليصل إلى 861 مليار جنيه مصري، بما يعني وجود فرق يعادل 205 مليارات جنيه مصري، وهذا دليل على زيادة الأعباء الداخلية بنسبة 31%، أي ما يعادل الثلث، خصوصا عند حساب خدمة الديْن الخارجي، إلى جانب تمويل عجز الحساب الجاري، ما يعني أن الحكومة ستقوم بالاقتراض بمعدّلات ضخمة على المستوى الداخلي. هذا الموقف المعقد للاقتصاد المصري يجعل التنبؤات المستقبلية له شديدة التشاؤم، وأنه يسير على طريق الاقتصاد اللبناني.
الحكومة المصرية مطالبة حاليا بسداد أعباء ديون خارجية تقدّر قيمتها بنحو 33 مليار دولار حتى شهر مارس/ آذار المقبل وفق أرقام البنك الدولي، وهذه الأموال مستحقّة السداد لمؤسسات دولية وبنوك استثمار وحائزي السندات الدولارية، وكذا للسعودية والإمارات والكويت. ولم يعد أمامها سوى خيارين: السحب من الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي، أو سرعة الحصول على قرض صندوق النقد الدولي، وهو بالفعل ما وافق عليه الصندوق، ولكن ليس بالمبلغ الذي كانت تريده القاهرة، فقد وافق الصندوق على مبلغ ثلاثة مليارات دولار، ما يعني أن هذا القرض لن يكون قادرا على حل تلك الأزمة، وبالتالي، قد تلجأ الحكومة إلى الخيار الثاني، السحب من الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي، إلا أن هذا الخيار ينطوي على مخاطر شديدة قد تؤدي إلى انهيار الاحتياطي، خصوصا أن الاحتياطي فقد نحو ثمانية مليارات دولار من قيمته منذ اندلاع حرب أوكرانيا، حيث تراجعت قيمته إلى 33.1 مليار دولار في الشهر الماضي (يوليو/ تموز الماضي) مقابل نحو 41 مليار دولار في نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي، رغم الودائع الخليجية الضخمة التي غذّته، وتجاوزت 13 مليار دولار، منها وديعة سعودية بقيمة 5.3 مليارات دولار وأخرى قطرية بقيمة ثلاثة مليارات دولار.
أصبح لا مفرّ من وجود خطة إنقاذ وطني لانتشال الاقتصاد المصري من مصير الاقتصاد اللبناني
تبقى البدائل المتاحة أمام الحكومة للحصول على موارد دولارية جديدة لسداد أعباء الديون المستحقة محصورة في الدخول بمفاوضات سريعة مع دول الخليج لتأجيل سداد الديون المستحقة لها، مع إقناع هذه الدول بضخّ أموال أخرى طازجة عبر شراء مزيد من الأصول المصرية خاصة من البنوك والشركات الناجحة، والبحث عن مقرضين دوليين جدد، والتوسع في الاقتراض من مؤسّسات إقليمية وخليجية، وخنق الاستيراد بهدف الحفاظ على الاحتياطي الأجنبي، مع إمكانية سحب جزء منه لسداد ديون مستحقة.
يوضح هذا المشهد المعقد أن الاقتصاد المصري وصل إلى نقطة حرجة، وأصبحت الديون تفوق ثلثي الإنتاج المحلي، وهي مرحلة صعبة يصل إليها أي اقتصاد، وأصبح لا مفرّ من وجود خطة إنقاذ وطني لانتشال الاقتصاد المصري من مصير الاقتصاد اللبناني على سبيل المثال. لكن السؤال الأبرز الآن: هل من الممكن أن تتم خطة الإنقاذ هذه في الوقت الحالي، أو أن يقوم عبد الفتاح السيسي بمثل هذه الخطة؟ والإجابة الواضحة أنه لن يكون ممكنا أن تتم خطة الإنقاذ هذه في ظل النظام الحالي، حيث إنه يسعى إلى الانتهاء من مشاريعه الوهمية ولو على حساب الاقتصاد المصري ومقدّرات الدولة، فهو يرى أنه لم يرتكب خطأ، بل إن المواطن المصري والظروف الدولية تسببا بالوضع الراهن.
تبدأ المرحلة الأولى والأهم في وضع خطة إنقاذ للاقتصاد المصري بعد رحيل السيسي عن السلطة، ووضع خطة إنقاذ وطني بصورة عاجلة وتدخل المجتمع الدولي لإنقاذ مصر من مستقبل مجهول، لا أحد يعرف توابعه أو تداعياته على المنطقة والعالم بأسره.