الانتخابات العراقية المبكرة وأوهام مقتدى الصدر
يبدو أن الكتل والأحزاب والمليشيات المسلحة الحاكمة في العراق، قد بدأت التحضير للفوز في الانتخابات المبكرة المقرر إجراؤها في يونيو/ حزيران المقبل، فهي بحاجة، على ما يبدو، إلى مزيد من الوقت، لتزيين وجوهها القبيحة، وتبرئة نفسها من جرائم ارتكبتها، وأموال حرام جنتها. فبالإضافة إلى استحضار كل الوسائل، سواء المتعلقة بالترهيب أو الترغيب أو شراء الذمم وتوزيع الرشاوى على الصحافيين والأقلام المأجورة، ليس مستبعدا لجوء هؤلاء إلى توظيف الدم العراقي للفوز في هذه الانتخابات، فمقعد واحد في البرلمان قد يجعل من الفقير مليونيرا، أو مليارديرا، بغمضة عين. ودعكم من الأكاذيب التي يروجونها، عن الإصلاح ومحاربة الفساد والسرقات وحصر السلاح بيد الدولة واستعادة هيبتها، فهذه بمجموعها قد سقطت، أو لم تعد مجدية لخداع الناس. على الرغم من تعلقهم بقشّة للخلاص من المحنة الخانقة. في حين تتميز الانتخابات في النظم الديمقراطية بالتنافس السلمي والحضاري، وعرض كل مرشّح برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لتحقيق مزيد من التقدم والحرية والرخاء لبلدانهم وشعوبهم.
مقعد واحد في البرلمان العراقي قد يجعل من الفقير مليونيرا، أو مليارديرا، بغمضة عين
الجديد في الانتخابات المقبلة تمرّد زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، على حلفاء الأمس من الاحزاب الطائفية، وسعيه إلى الفوز في الانتخابات بأغلبية تمكّنه من تشكيل حكومة صدرية، يحقق من خلالها أوهامه بقيادة "البيت الشيعي" وقيادة العراق دفعة واحدة. وهذا ما يفسّر نشاطه المحموم وتغريداته المؤيدة للانتخابات المبكّرة، ومطالبة الناس الاشتراك فيها بقوة. متناسيا قسمه القاطع بعدم الدخول في أية انتخابات أو سلطة حكومية، على عكس الأحزاب والكتل الأخرى التي تحاول تأجيل الانتخابات بكل الطرق والوسائل. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث خاطب ثوار تشرين، الذين قتل موالون له من قتلوا بالأمس القريب، بلغة ودّية، اعترف فيها بمشروعية ثورتهم ضد الفساد، وطالبهم بالوقوف إلى جانبه! ومما يعزّز ثقة مقتدى بنفسه حصوله على دعم رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، الذي يأمل تمثيل مقتدى في رئاسة الحكومة الجديدة، وحصوله أيضا على دعم دول خليجية، وفي مقدمتها السعودية، ظنا منها بأن التيار الصدري عروبي ومعتدل، لا يكنّ لهم ولا "للمكون السني" العداء الذي تكنّه الأحزاب الطائفية الولائية.
لكن مقتدى الصدر تجاهل حقيقة موقعه الراهن في الساحة العراقية، ومحدودية قدرته على الفوز بأغلبية ساحقة، فهو فقد، وخصوصا في الآونة الأخيرة، تأييد فئات واسعة من المخدوعين والفقراء المعدمين الذين يشكلون عماد تياره سيئ الصيت والسمعة، جرّاء إصراره على دعم العملية السياسية وحمايتها من كل مكروه. إضافة إلى تقلباته ونزقه ورعونته وتناقض تصريحاته. أما "ثورة تشرين" الذي تطوع مقتدى لإنهائها بقوة السلاح، فإن أبناءها لن يخدعوا به، أو بغيره ممن شارك في العملية السياسية. خصوصا أن الانتخابات المبكّرة التي طالبوا بها لم تستوف الشروط التي تمكّن الناخب من إيصال الشخص المناسب إلى البرلمان، وليس الشخص الذي يختاره الحزب أو الكتلة المتنفذه. ومن هذه الشروط وجود حكومة وطنية مستقلة، لا حكومة محاصصة طائفية كحكومة مصطفى الكاظمي، وقانون جديد للانتخابات، وليس إجراء تعديلات شكلية عليه، وقانون للأحزاب يجرّم كل حزب طائفي أو عنصري أو موالٍ للأجنبي، أو شارك في العملية السياسية منذ 2003. بل اعتبر "ثوار تشرين" أن مقاطعة الانتخابات تسهل مهمتهم لطرد السارقين والفاسدين، وإسقاط العملية السياسية، أو على الأقل نزع شرعية وجودهم في سدّة الحكم.
يتجاهل الصدر حقيقة موقعه الراهن في الساحة العراقية، ومحدودية قدرته على الفوز بأغلبية ساحقة في الانتخابات
أما الذين يعتقدون أن مقتدى جادٌّ، هذه المرة، فيما يقول، ويطالبون بمنحه فرصة جديدة، فنذكّرهم بسجله الأسود في هذا الخصوص بالذات، فهو قد تخلى عن كل وعوده الانتخابية بالإصلاح ومحاربة الفساد والمحاصصة الطائفية. ومن ذلك أنه، بعد تشكيل تحالفه الانتخابي عام 2018، المسمّى سائرون، تعهده بتنفيذ برنامجه الذي يجعل من العراق جنة عدن. ثم بمجرد فوزه في الانتخابات تخلى عن هذا البرنامج جملة وتفصيلا، وراح يعقد التحالفات مع حيتان الفساد والمحاصصة الطائفية، مثل هادي العامري وعمار الحكيم وقيس الخزعلي، لينتهي إلى موافقته على تسليم السلطة إلى عادل عبد المهدي، الرجل الذي اتفق عليه الإيراني قاسم سليماني والسفير الأميركي في بغداد، وذلك مقابل منح مقتدى حصة كبيرة في الحكومة والمناصب المهمة والدرجات الخاصة. بل سعى، في تلك الفترة، إلى محاربة كل جهة وقفت ضد الحكومة، أو حاولت المساس بالعملية السياسية، وخير دليل على ذلك تطوّعه بإنهاء ثورة تشرين بقوة سلاح أتباع له، لأنها طالبت بالاصلاح.
لنفترض أن مقتدى فاز بالأغلبية وشكل حكومة صدرية، فهل سيسمح له الآخرون بالتفرد بقيادة ما يسمى البيت الشيعي والسلطة معا، وبالتالي نيله حصة الأسد ورمي الفضلات لهم؟ أم أنهم سيجبرونه على العودة إلى بيت الطاعة، والاكتفاء بحصته من مغانم عملية الاحتلال السياسية؟ لسنا في عجلة من أمرنا، إذا قلنا إن ما ذهب إليه مقتدى يدخل في خانة الأوهام، وإنه سيفيق منها حتما، فزعامة "البيت الشيعي" وقيادة العراق دفعة واحدة تتطلب منه الدخول في حربٍ ضد المليشيات المسلحة وضد إيران التي يخشاها مقتدى، وترتعد فرائصة منها، ومن ولي فقيهها، علي خامنئي. وإذا تجاهل مقتدى هذه الصعوبات، أو حاول نسيانها، فإنه ليس بمقدوره نسيان صولة الفرسان التي قام بها نوري المالكي وحده وولى هاربا أمامها، ولا يزال ألوف من أتباعه في السجون والمعتقلات، خصوصا وأن قوة المليشيات المسلحة، في الوقت الحالي، قد فاقت قوة الجيش حينها، من حيث العدّة والعتاد، وامتلاكها أسلحة حديثة ومتطورة ومدفعية ثقيلة وصواريخ أرض أرض وطائرات مسيرة. أما حلفاؤه الجدد، مصطفى الكاظمي ودول الخليج العربي، وفي مقدمتها السعودية، فإنهم سيقفون متفرّجين بانتظار انجلاء غبار المعركة، فتورّط الأحزاب الحاكمة ومليشياتها المسلحة بحربٍ فيما بينها يعد عز الطلب بالنسبة للحلفاء الجدد لأسباب معروفة.
زعامة "البيت الشيعي" وقيادة العراق دفعة واحدة يتطلب من الصدر الدخول في حربٍ ضد المليشيات المسلحة وضد إيران
في المقابل، لن تسمح واشنطن وطهران لمقتدى الصدر، أو غيره، بالمساس بنظام المحاصصة الطائفية والتفرّد بالسلطة، بل إنهما لن تسمحا بتهميش دور الأطراف الأخرى في العملية السياسية، وخصوصا المدعومة بالمليشيات المسلحة، فوجود هذه الأحزاب والمليشيات هو الضمانة الوحيدة لمواصلة سياسة الفوضى الخلاقة التي اعتمدتها الولايات المتحدة أساسا لتنفيذ مخطط تدمير العراق الذي لم يكتمل بعد. يضاف إلى ذلك أن جوهر المشكلة التي يعاني منها العراق وشعبه ليست أبدا في تغيير حكومة بأخرى، ولا بفوز هذه القائمة أو تلك، أو تكمن في حكومة أغلبية أو حكومة توافقية. وإنما تكمن، أساسا، في النظام السياسي المبني على قواعد المحاصصة الطائفية والعرقية والمليشيات المسلحة والعصابات الإرهابية والفساد والرشوة والسرقة والقتل والتهجير. وهذه المساوئ جميعا محمية بدستورٍ دائم، لا يمكن تعديل مادة واحدة فيه. الأمر الذي يضع القادم الجديد أمام خيارين، القبول بالأمر الواقع أو مواجهة مصيره الأسود. بمعنى آخر، لو جاءت حكومة من صفوة القوم، ومن خيرة علمائها، وتتمتع بكل صفات الوطنية والنزاهة، لن تتمكّن من إصلاح العملية السياسية من داخلها، في ظل المواصفات أعلاه، وإنما ستنحني أمامها، أو تقدّم استقالتها لتجنب نتائج لا تحمد عقباها.
لكي لا نطيل أكثر، كل ما يشغل مقتدى الصدر أن يكون القائد الأوحد للعراق، يتحكّم بشؤونه كما يشاء. أما شعاراته عن الإصلاح ومحاربة الطائفية، والفساد والمفسدين، أو الوقوف ضد تدخلات إيران السافرة في العراق، فهذه ليست سوى شعارات يدغدغ فيها عواطف الناس لتحقيق أوهامه، أو "عدّة الشغل" كما يقول العراقيون. في حين أن حديثه عن أهمية الانتخابات المقبلة، وضرورة الاشتراك فيها طريقا لخلاص العراقيين من محنتهم الخانقة، فإن مقتدى يعلم أكثر من غيره أنها لن تكون سوى نسخة طبق الأصل من الانتخابات التي سبقت. وبالتالي، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، الحل الوحيد للإصلاح وتخليص العراق من محنته يتمثل في إسقاط العملية السياسية، على يد ثورة تشرين العظيمة. الأمر الذي يحتم الوقوف ضد هذه الانتخابات ودعوة الناس إلى مقاطعتها، وتشجيعهم، في المقابل، على الاشتراك بثورة تشرين، لتمكينها من تحقيق أهدافها كاملة، وفي مقدمتها إسقاط العملية السياسية، وتشكيل حكومة وطنية مستقلة، تأخذ على عاتقها بناء العراق الجديد فعلا. وبعكس ذلك، يمنح الاشتراك في الانتخابات أو المراهنة عليها الشرعية لهؤلاء الذين سيفوزون حتما في الانتخابات، لما يمتلكونه من سلطة ومال وسلاح، إضافة إلى دعم المرجعيات الدينية.