الانتخابات العراقية على كفّ عفريت التأجيل
جاءت حكومة مصطفى الكاظمي في العراق، في مايو/ أيار 2020، إثر استقالة حكومة سلفه عادل عبد المهدي، نتيجة التظاهرات الشعبية العارمة التي اجتاحت مدن جنوبي العراق ووسطه، بسبب تردي الخدمات وانعدام فرص التوظيف الحكومي. وجاءت التظاهرات التي انطلقت في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ردّة فعل على التحاصص الحزبي والفساد الكبير الذي أكل من جرف كلّ شيء في عموم العراق، خصوصاً مدن الجنوب التي اعتقدت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي أنّ تلك المدن حاضنتها التي لن تثور عليها.
المهمة الأبرز التي تم تسويقها لحكومة الكاظمي أنّها حكومة الانتخابات التي تم تحديد موعدها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، علماً أنّ ما واجهته هذه الحكومة من أزمات ربما لا يقلّ عن الأزمات التي واجهت العراق مع احتلال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ثلث مساحته. ومع كلّ أزمة تواجهها، تثبت هذه الحكومة أنّها ليست سوى ديكور قبيح لفاعلين يتلاعبون به، تارة من خلف الكواليس، وتارات أخرى من أمامها، فلم يعد هناك من شيءٍ مخفيٍّ في العراق.
الانتخابات المقرّرة، وهي الاستحقاق الذي يفترض أن حكومة الكاظمي جاءت لتؤدّيه، وتقدّمه للشعب العراقي، هي الأخرى تواجه أزماتٍ وأزماتٍ متلاحقة قد تدفع الحكومة إلى تأجيلها، فليس من السهولة بمكان إجراء الانتخابات في ظروفٍ بالغة التعقيد، ليس أقلها أنّ أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، وهي التي تمسك فعلياً بالسلطة، وجدت نفسها، لأول مرة ربما، بلا قاعدة، ولو بسيطة، تعينها على تحقيق مكاسب سياسية تقودها إلى البرلمان.
الارتباك الواضح على مختلف الصُعد السياسية والخدمية لمناطق جنوب العراق ينذر بمواجهاتٍ مرتقبة
صحيحٌ أنّ الانتخابات العراقية ليست سوى لعبة أحزابٍ تتنافس على من يحصل على بطاقات ناخبين أكثر قبل أن تجري الانتخابات أصلاً، بمعنى أنّها صندوق كبير لفساد حيتان السياسة في العراق. مع ذلك، إنّها المرة الأولى التي تجد أحزاب السلطة (أحزاب الإسلام السياسي الشيعي) أنّها بلا جمهور.
مقتدى الصدر، الطامح المتقلب، ذو المواقف الزئبقية، أعلنها بدايةً، ومن خلال بعض أنصاره، أنّه يرغب في الحصول على منصب رئاسة الحكومة المقبلة، علماً أنّ الصدر وتياره الشعبي، مشارك في كلّ انتخابات، وله حصة كبيرة في كلّ الحكومات التي تشكلت منذ 2003، بمعنى أنّه شريك رئيسي في كلّ عمليات الفساد. لكن يبدو أنّ طموح الصدر هذه المرّة بات كبيراً، فاشترط الحصول على منصب رئاسة الحكومة في مقابل المشاركة في الانتخابات. ولا يبدو أنّ مطلب الصدر وأنصار تياره وجد ترحيباً كبيراً لدى أطراف البيت السياسي الشيعي، فالجميع، في ما يبدو، قد أبلغ الصدر برفض تلك الفكرة، ما دفعه إلى إعلان انسحاب تياره من الانتخابات المقبلة، ناهيك عن التلويح بمليشياته من خلال دعوته لهم إلى البقاء على أهبة الاستعداد وانتظار تعليماته، في حين قامت مليشيات أخرى تابعة له (لواء اليوم الموعود) بتنفيذ استعراض عسكري في مدينة النجف، وكأنّه يريد أن يقول إنّه لا انتخابات من دون مشاركة تياره، ولا مشاركة من دون الحصول على منصب رئاسة الحكومة المقبلة.
الارتباك الواضح على مختلف الصُعد السياسية والخدمية لمناطق جنوب العراق ينذر أيضاً بمواجهاتٍ مرتقبة، بين الجماهير الغاضبة التي لا تنتهي من أزمةٍ حتى تدخل في الأخرى، فمن غياب الخدمات ونقص الوظائف والانتشار المفزع لفيروس كورونا إلى حريق مستشفى الحسين في الناصرية، وصولاً إلى عدم قدرة الحكومة حتى على الإيفاء بوعودها بالقبض على قتلة المتظاهرين، ما يعني أنّ مواجهةً قريبة قد تفجر الشارع الجنوبي من جديد في وجه أحزاب الفساد.
ستبقى الانتخابات العراقية رهناً بالساحة الشيعية التي لا يبدو أنّها مستعدّة للمشاركة فيها في ظلّ حالة الاحتجاج الشعبي ضدها
يضاف هذا كلّه إلى تحدّيات أخرى، فرضتها الأجندة الإيرانية، ممثلة بالمليشيات التابعة لطهران، والتي ترفع شعار مغادرة القوات الأميركية العراق، وما تقوم به في سبيل تحقيق ذلك من خلال قصف متكرّر لمواقع أميركية سواء للسفارة وسط بغداد أو حتى للقواعد المنتشرة في غرب العراق وشماله.
تحدٍّ يفرض على حكومة الكاظمي أن تقدّم رؤية استراتيجية واضحة حيال هذا الوجود، تقنع من خلالها تلك المليشيات بضرورة الحفاظ على الهدوء إلى حين انتهاء سحب أميركا باقي قواتها، فعلى الرغم من إعلانات أميركية متكرّرة بأن وجودها مرتبط بحاجة حكومة بغداد بالدرجة الأولى، إلّا أنّ المعطيات تفيد بأنّ واشنطن ما عادت معنية بالبقاء في العراق، ما يعني أنّ زيارة الكاظمي المرتقبة إلى واشنطن قد تسفر عن تحديد موعدٍ لهذا الانسحاب.
على الطرف الآخر، السنّيّ السياسي والكردي السياسي، لا يبدو أنّ هناك جديداً يذكر سوى قديم يعاد، بأنّهم باتوا أطرافاً مكملة للعبة السياسة وديكورها المتمثل بالانتخابات، فعلى الرغم من تنافس سنّيّ قوي بين كتلتين كبيرتين، تتمثلان بكتلة عزم بقيادة خميس الخنجر، وكتلة تقدم بزعامة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، إلّا أنّهما في المطلق لن يكونا إلّا رجع صدى ما ستسفر عنه نقاشات الداخل السياسي الشيعي، سواء في المضيّ بالانتخابات أو تأجيلها، وكذا الحال ينطبق على البيت السياسي الكردي.
ستبقى الانتخابات العراقية رهناً بالساحة الشيعية التي لا يبدو أنّها مستعدّة للمشاركة فيها في ظلّ حالة الاحتجاج الشعبي ضدها، ناهيك طبعاً عن الخلافات التي تعصف بالقوى السياسية الشيعية ذاتها حيال رؤيتها إلى مرحلة ما بعد تلك الانتخابات، لتبقى أول مهمة لحكومة مصطفى الكاظمي، وهي إجراء الانتخابات، محكومةً هي الأخرى بالفشل، مثل كلّ المهمات والعقبات التي واجهتها هذه الحكومة خلال عام ونيف.