الانتخابات محظورة على الفلسطينيين وتتجدّد للإسرائيليين
تمكّن نائب إسرائيلي من هزّ حكومة نفتالي بينت، والدعوة الى حلّ الكنيست. ينتمي النائب نير أورباخ إلى تكتل يمينا الذي يقوده بينت نفسه، بل أعلن هذا الأخير اعتزاله الحياة السياسية، وعدم خوض الانتخابات المقبلة، مانحاً ثقته لوزيرة الداخلية، إيليت شاكيد، لقيادة التكتل، حديث النشأة الذي نشأ في غمار الانتخابات المتلاحقة، بعد أن كان يحمل اسم "البيت اليهودي". وبينما يمنح الرجل ثقته لتلك السيدة، فقد جرى تسريب لقاءات متكرّرة جمعتها بالمعارض بنيامين نتنياهو، وقد تصبح وزيرة في حكومة يترأسها هذا، علماً أن بينت نفسه نشأ سياسياً في كنف نتنياهو، قبل أن ينشقّ عنه. على هذا النحو، يجرى حل حكومة، والدعوة إلى انتخابات جديدة، وتتشكّل تحالفات وحكومات في لعبة منضبطة، يستثمر فيها كل عضو كنيست وزنيه التشريعي والحزبي، إلى أقصى حد، مع ما لذلك من انعكاس على وضع الحكومة. وبينما يبدو نتنياهو مدمناً على السلطة وأضوائها وامتيازاتها، وعاجزا عن البقاء خارجها، فإن بينت (50 عاماً) ينتمي لقطاع رجال الأعمال في المجال التكنولوجي، إذ يوصف بأنه في عداد المليونيرات، وهو إلى ذلك أيديولوجي بأكثر مما هو سياسي، إذ يؤمن بعقيدة الاستيطان، وسبق أن كان رئيساً لمجلس المستوطنات، وهو ما يفسّر رفضه، من حيث المبدأ، الحلول السياسية مع الجانب الفلسطيني، ولو من باب ذرّ الرماد في العيون. ولذلك كان من الميسور عليه الإعلان عن تخليه عن العمل السياسي (مع بقائه في حكومة تصريف أعمال برئاسة يئير لبيد إلى حين انتهاء ولايتها عقب الانتخابات المقدّر إجراؤها مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل).
أما النائب نير أورباخ الذي نجح في خلخلة الحكومة، فقد برّر موقفه هذا بأنه يعود إلى عدم تمكّن الكنيست من تمديد الأنظمة الخاصة بمستوطني الضفة الغربية، والتي تمنحهم الحقوق نفسها التي يتمتع بها المواطنون الإسرائيليون (مع امتيازات أخرى)، وهي أنظمة يجرى تجديدها كل خمس سنوات، وقد انتهت الفترة الأخيرة مع نهاية الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، علماً أن دولة الاحتلال لن تعدم وسيلة للتكييف القانوني تكفل بها عدم المساس بأوضاع المستوطنين الغزاة، سواء جدّدت "أنظمة يهودا والسامرة" أم تأجّل تمديدها.
التطوّرات الداخلية في الكيان الصهيوني تجري بمعزل عن الأجواء الساخنة المتعلقة بالمفاوضات الإيرانية الأميركية غير المباشرة، والاحتمالات القائمة لتجديد الاتفاق النووي
يسترعي الانتباه أن هذه التطوّرات الداخلية في الكيان الصهيوني تجري بمعزل عن الأجواء الساخنة المتعلقة بالمفاوضات الإيرانية الأميركية غير المباشرة، والاحتمالات القائمة لتجديد الاتفاق النووي، إذا ما وقع اختراق ما في المفاوضات التي تستضيفها الدوحة. كما تقع هذه التطورات قبل زهاء أسبوعين من زيارة مهمة، سوف يؤدّيها الرئيس الأميركي جو بايدن، إلى المنطقة، وتشمل تل أبيب ورام الله والرياض، ويتخللها لقاء قمّة في العاصمة السعودية، يشارك فيه بايدن مع قادة دول مجلس التعاون ومصر والأردن والعراق. وبهذا، لا تجد التطورات السياسية الأشد أهمية لها صدى يُذكر في هذه الآونة، في الاستقطابات الحزبية الإسرائيلية، ومنها مستجدّات الأيام الثلاثة الماضية. ولا يعود الأمر، بطبيعة الحال، إلى استخفاف الفاعلين البرلمانيين والحزبيين بالتطورات السياسية الإقليمية والدولية، بل يرجع إلى عدة عوامل، منها: أن المؤسسات مستقرّة، وأن القضاء (إضافة إلى مجلس الدولة، وهو هيئة رقابية عليا) يعمل بانتظام وبصورة مستقلة، علاوة على "الرقابة" الإعلامية النشطة، ثم رقابة الأحزاب بعضها على بعض، ومعها مجموعات ومنظمات قانونية.
ويتمثل العامل الثاني في نفوذ الدولة العميقة، ممثلة بمجلس الأمن القومي والأجهزة الأمنية التي تحدّد الخطوط الحمراء لكل ما تعتبره ماسّاً بدولة الاحتلال، وتضع الاستراتيجيات، وتسهر على تنفيذها. وقد كان لمجلس الأمن القومي ولنشاط الموساد دور في التهيئة للاتفاقات الإبراهيمية، وفي التواصل مع جهاتٍ لا تقيم علاقات مع تل أبيب، كما أن قرار اغتيال الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة لم يكن بعيداً عن دائرة النفوذ هذه، والتي تشمل الشاباك (الاستخبارات الداخلية). كذلك الحال في الاستباحات المنهجية وشبه اليومية للمسجد الأقصى، والمساس بأماكن العبادة المسيحية، فهي توجّهات تصوغها الدولة العميقة، وتشرف على تطبيقها.
تبدو الحياة السياسية على الجانب الفلسطيني مشلولةً وعاجزة عن توليد فاعلين سياسيين جدد
أما العامل الثالث الذي يجعل القضايا الأكثر أهمية ليست مدار تجاذب وتشاحن، وتقريباً خارج النقاش اليومي والتنافسات الحزبية، فهو أن اليمين ورموزه وأحزابه وتكتلاته وزعاماته الدينية، بمن فيهم، بطبيعة الحال، زعامات المستوطنين، هو المتسيّد والمهيمن على الفضاء السياسي والاجتماعي. وحتى موعد الانتخابات المقبلة، لن يكون مستبعداً نشوء أحزاب وتيارات جديدة يقودها طامحون لاستغلال جنوح المجتمع السياسي أكثر فأكثر، وأوسع فأوسع، نحو اليمين، فيما تقوم لعبة هؤلاء الطامحين على أنهم يحملون برامج أكثر تطرّفاً ممن سبقهم من المتطرّفين.. إنه مزاد حزبي علني على التطرّف، وعلى هذا النحو، جاء بينت، قبل عام، باعتباره يقف على يمين نتنياهو اليميني، ومع ذلك، حظي هذا الرجل بإعجاب مسؤولين عرب.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فإنه في وقتٍ تبدو فيه الحياة السياسية الداخلية الإسرائيلية مفعمة بالحركة، وحيث يجري الرجوع مرّة تلو المرّة، وفي غضون سنوات قليلة، إلى الناخب، وإلى صناديق الاقتراع (خمسة انتخابات في أقل من أربع سنوات)، فإن الحياة السياسية على الجانب الفلسطيني تبدو مشلولةً وعاجزة عن توليد فاعلين سياسيين جدد، وإذ تلعب إسرائيل نفسها دوراً مشهوداً في وصول الأمور إلى هذه الدرجة من العقم، في مطاردة الناشطين وإغلاق المؤسسات ومختلف أشكال التقييدات، فذلك لا يعفي الجانب الفلسطيني من مسؤولياته الذاتية في إرساء هذا الجمود وتكريسه، فقد جرى العدول عن إجراء الانتخابات، في حين كانت على وشك أن تبدأ، وتفتح فصلاً جديداً في الحياة الوطنية العامة. والنتيجة المفزعة لذلك أن الشعب لا يجد فرصةً لاختيار من يمثله، ما أضعف المكانة المعنوية والتمثيلية للسلطة في رام الله، وكذلك لسلطة حركة حماس في قطاع غزة. ولئن كان إجراء الانتخابات وحدها لن يحلّ الإشكالات، ولن يجيب عن التحدّيات، فالشاهد أن السلطتين تتنافسان على حرمان الشعب من التمثيل، وحرمان الحياة الوطنية من التجديد، ومن امتلاك مشروع وطني عام، ينتظم فيه الجميع، بما يتجاوز الانقسام الذي أصبح مشروعاً مُربحاً لأصحابه هنا وهناك، إذ يجعل السلطة في كل من رام الله وغزة بغير رقابة تشريعية، وبدون قضاء مستقل يسهر البرلمان على ضمان استقلاله، فضلاً عن بقية أوجه الحريات العامة.