البرهان واستعادة زمام المبادرة
أتاح خروج قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، من تحت حصار قوات الدعم السريع في الخرطوم، والذي كان مستمرّاً منذ بدء الحرب في 15 إبريل/ نيسان الماضي، له التحرّك بأكثر من اتجاه لمحاولة استعادة زمام المبادرة السياسية والعسكرية. بين الجولات الداخلية التي يُجريها خارج الخرطوم، حيث الثقل الأكبر للمعارك، والزيارات الخارجية التي شملت حتى الآن مصر وجنوب السودان وقطر، يريد البرهان القول إنه مطمئنٌ للوضع الميداني وسير المعارك. وإذا ما صدقت الأنباء عن نيته التوجه إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ففي ذلك إشارة إضافية إلى التحكّم على الأرض، لأن الغياب أياما، وليس ساعات، عن البلاد لن يكون ممكناً في حال كانت كفّة المعارك تميل لمليشيات حميدتي أو في حالة عدم ثقته بمن يشاركونه إدارة المعركة.
يستفيد البرهان من عوامل ومتغيّرات عدة لا تصبّ في صالح حميدتي ومليشياته، خصوصاً في ما يتعلق بموقف الولايات المتحدة الضاغط باتجاه ضرورة وقف الحرب والتوصّل إلى تسوية. هذا التوجه لواشنطن محكومٌ باعتباراتٍ عدّة، لا تتعلق فقط باهتمامها بالسودان وخطورة الأزمة التي يواجهها أمنياً وسياسياً واقتصادياً وإنسانياً، بل بتأثيرات ما يجري في هذا البلد على الإقليم المضطرب في الأساس، إلى جانب الرغبة في محاصرة النفوذ الروسي ومرتزقة فاغنر، والذين سبق أن اتهمتهم واشنطن بتزويد الدعم بأسلحةٍ من بينها صواريخ أرض جو. العقوبات التي فرضت قبل يومين على نائب قائد قوات الدعم السريع في السودان، عبد الرحيم حمدان دقلو، وهو شقيق حميدتي، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان لم تكن سوى إحدى أوراق الضغط التي تشهرها كل فترة. لكن من الخطأ الاعتقاد أن الموقف الأميركي يميل للبرهان، ففي يونيو/ حزيران الماضي، فرضت عقوباتٍ على شركات ومؤسّسات تابعة لطرفي النزاع، الجيش وقوات الدعم السريع. ومنذ تصاعد الحرب في السودان، تعلو أصوات، عبّرت عن نفسها في مقالاتٍ وتقارير نشرها عديد من مراكز الأبحاث والتفكير الأميركية، تنادي باعتماد مقاربة العقوبات الاقتصادية الصارمة لتجفيف منابع التمويل للبرهان وحميدتي، بهدف تسريع وقف الحرب، لا سيما أن الطرفين تتشعّب مصالحهما واستثماراتهما في الاقتصاد السوداني الرسمي وغير الرسمي. كما أن السفير الأميركي، جون غودفري، قال أخيراً إن طرفي الحرب لا يصلحان للحكم، داعياً إلى إنهاء الصراع وتسليم السلطة لحكومة مدنية، وهو ما استدعى ردّاً من الخارجية السودانية انتقدت ما ورد على لسان السفير، بوصفه منافياً للأعراف الدبلوماسية، وطالبت بتصحيحه.
يدرك البرهان الموقف الأميركي، لكنه يعي أيضاً أن فيه فرصة يمكن انتهازها لمنح نفسه أفضلية في مواجهة "الدعم". يمكن وضع قراره، حلّ قوات الدعم السريع وإلغاء قانونها، في هذا السياق أيضاً. يعي البرهان أن القرار لن يغير الكثير في الميدان، فعناصر "الدعم" لن يتخلّوا عنها بين ليلة وضحاها بعد قراره، طالما أنها تزوّدهم بالمال والعتاد، لكنه يريد تحقيق أهداف أخرى، أهمها ما يتعلق بنزع الشرعية القانونية لهذه القوات التي كانت جزءا من الجيش، أقلّه بحسب مرسوم تشكيلها الصادر في 2017. وهو ما يفسّر الرد السريع من "الدعم" وإعلانها أنها لا تعترف بقرار قائد الجيش، إذ لا تريد التسليم له بفكرة احتكار الشرعية، وهي التي تصوّر نفسها منذ بدء الحرب أنها تقاتل من أجل "حماية الديمقراطية".
يدرك البرهان وكذلك حميدتي أنه لن يكون هناك أي منتصر في الحرب على الأرض. لكنهما يريدان تحسين موقعهما على طاولة التفاوض، عندما تحين اللحظة الحقيقية للمحادثات. كل ما جرى سابقاً من اجتماعات بين ممثليهما، واتفاقات على وقف مؤقت للنار، والتي نادراً ما تم الالتزام بها، لم تكن سوى جسّ نبض للمفاوضات الحقيقية. وعندما تحين لحظتها الحقيقية سيكون محورها ليس الوضع الإنساني فقط، بل أيضا مستقبل الطرفين في المشهد السوداني السياسي والعسكري.