التجربة البريطانية: حبيبي شرطي متخفٍ!
شهدت بريطانيا، في نهاية الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) بدء جلسات محاكمةٍ فريدة من نوعها. الناشطة كيت ويلسون أدلت بشهادتها في جلسة استماع بخصوص فضيحة تجسّس وحدة خاصة بالشرطة البريطانية على أنشطة مدنية بوسائل شملت علاقات عاطفية وجنسية مع الضحايا.
كانت كيت ويلسون تعمل في مركز مجتمعي في نونتغهام عام 2003، حين انضم إليهم شاب وسيم، سرعان ما أصبح شريكها العاطفي. روت كيت أنه اصطحبها لتناول العشاء، وللسينما. أقام مع عائلتها خلال عيد الميلاد، اشترى لها الهدايا، وشاركها بتسلق الصخور، وبالمظاهرات لحماية البيئة، بل إنه سجّلها في وثيقة رسمية على أنها أقرب أقاربه "نيكست أوف كين". انفصلا بكل ود عام 2005، حين سافرت إلى إسبانيا، بينما واصل هو طريقه.
قالت كيت أمام المحكمة إن الضابط مارك كينيدي أقام علاقات جنسية مع 11 امرأة تحت هذا الغطاء الخادع. الضحية التي استمرت العلاقة معها أطول فترة هي الناشطة ليزا جونز، والتي استمرت علاقتها به نحو ست سنوات، قبل أن تبدأ ظلال الشك تظهر حوله، حتى جاءت لحظة الحقيقة الدرامية، حين عثرت على جواز سفره حاملاً اسمه الحقيقي! قالت ليزا إنه كان أكثر شخصٍ تثق به في حياته، وكان الكشف التدريجي عن الحقيقة كأنه "تعذيبٌ مؤلم طويل وبطيء".
حين أعلن النشطاء عام 2010 عن هوية الضابط كينيدي، اعترفت الشرطة بالواقعة بعد ثلاثة أيام، لكنها قالت إن الضابط تصرّف بشكل فردي تماما. شكلت وزيرة الداخلية في ذلك الوقت، تيريزا ماي، لجنة تحقيق في أنشطة "وحدة استخبارات النظام العام الوطني". تم الكشف عن عمق مذهل لتلك العمليات، إذ ظهر أن 139 ضباط شرطة سريا على الأقل تجسسوا على، واخترقوا أكثر من ألف مجموعة سياسية منذ عام 1968.
أسماء المجموعات التي تم اختراقها طويلة، تشمل منظمات يسارية، وحركات سلام نشطت ضد حرب فيتنام، وجمعيات حقوقية، وحتى مجموعات للمدافعين عن البيئة وحقوق الحيوان.
واصل النشطاء من جانبهم جمع أجزاء الصورة المرعبة، وتضامنت الناشطات في قضية واحدة ضد خمسة ضباط تم كشف هوياتهم، وظهر أنهم أقاموا علاقات عاطفية وجنسية مخادعة.
توصلت عام 2015 الشرطة إلى تسوية تتضمن دفع تعويضاتٍ علنية، لم يتم الإعلان عن حجمها، وكذلك تقديم اعتراف واعتذار علني. ووجه بيان الشرطة البريطانية الشكر لشجاعة النساء ومثابرتهن، وأقر أن العلاقات التي حدثت كانت "انتهاكا لحقوق المرأة، وإساءة استخدام لسلطة الشرطة"، مؤكّداً أن ما حدث كان "انتهاكا صارخا للكرامة الشخصية والنزاهة"، وأن ما حدث "يثبت وجود إخفاق في الإشراف والإدارة". اعترفت الشرطة بأن القائد المباشر للضابط كينيدي كان على علم بما يحدث، لكنها لم تفصح عن اسمه، وتمسّكت بتأكيد أنها لم تكن عمليات ممنهجة متعمّدة. وحصلت ناشطة تحمل الاسم المستعار "جاكي" على تعويض بقيمة 400 ألف إسترليني خارج المحكمة، بعد اكتشافها أن والد ابنها هو الضابط المتخفي بوبي رامبرت.
أدّت الفضيحة أيضا إلى هدم قضية "محطة كهرباء راتكليف"، حيث كانت تجري وقائع محاكمة نشطاء بيئيين، بتهمة التآمر لارتكاب اعتداء جسيم على ممتلكات الغير، حيث ظهر أن الضابط كينيدي كان ناشطا في تلك المجموعة، إلى حد كونه مساهماً في اتخاذ قراراتها، وأيضاً ظهر أنه أخفى أدلةً كان بإمكانه إظهارها لتبرئة نشطاء. واليوم تواصل الناشطة كيت ويلسون وحدها مسار القضية. تطالب بكشف كل أسماء المتورطين وكل الوثائق ذات الصلة، وبمحاكمات جنائية للمسؤولين.
من المؤسف أن تناول أمثال هذه القصص في بلادنا يستخدمه عادة أنصار الاستبداد أو أنصار الثورية العدمية، وكلاهما يروّج أن ذلك يكشف زيف الديمقراطية، وتساوي أوضاعنا بأوضاعهم. صحيحٌ أن الديمقراطية لم تكن حلاً سحرياً لفرض سيطرة قانونية تامة على كل الأنشطة الأمنية التي استمر عملها السري، على الرغم من اختلاف الحكومات المنتخبة، لكنها في المقابل قدمت أدوات المحاسبة للجناة والحماية للضحايا، من صحافة حرّة وقضاء مستقل وضغوط رأي عام.
والأوْلى من الغرق في جدالات عبثية أن ندرس القصة نموذجا عمليا لديناميكية صراع الديمقراطية والأجهزة الأمنية، وهي عملية مستمرّة وتفاعلية، حتى في أعرق الديمقراطيات، فضلا عن بلاد الفشل بالانتقال الديمقراطي.