التطبيع واستباحة الأقصى التي لا تتوقّف
هل كان اتّساع حملات استباحة المسجد الأقصى من 1400 متطرّف يهودي في الأسبوع الماضي مفاجئاً وغريباً، أم أن هذا الاجتياح معهودٌ ومتوقّع؟... التقديران صحيحان، رغم ما يُظهرانه من تعارضٍ بينهما، فالشواهد تدلّ على أن استهداف الأقصى بصورة منهجية متصاعدة هدف ثابت للمؤسّسة اليمينية ونواتها الصلبة حزب الليكود، إذ إن التقرّب من المجموعات الدينية المتطرفة إلى درجة التماهي معها يمثل ركناً ركيناً في استراتيجية "الليكود"، لتوسيع قاعدته الاجتماعية والأيديولوجية، وتكريسها بما يضمن له اجتذاب تأييد هذه القاعدة في أية انتخابات مقبلة، بعد النجاح الانتخابي خريف عام 2022، بما يكفل المضي إلى الأمام، لاعتبار أن التوراة مصدر التشريع وأداة للحكم إلى جانب القوانين الأساس التي يسنّها الكنيست، ما وجد تعبيراً له في إقرار قانون القومية اليهودية في عام 2018 الذي يعلي من شأن كل ما هو يهودي على أي اعتبار آخر، قانونياً كان أم سياسياً.
ورغم أن المؤسّسة الإسرائيلية، بسائر أجنحتها، تتوافق على دوام الاستيلاء على القدس تحت مسمّى "توحيد أورشليم"، إلا أن بعض الأجنحة الأشكنازية، ومعها الحاخام الأكبر، لا تحبّذ مجموعات من المتدينين والمستوطنين المسجد الأقصى، إذ توكل أمر السيطرة على الأماكن المقدّسة إلى الشرطة والشاباك (الأمن الداخلي)، من غير أن ترفع الصوت بهذا الموقف، غير أن للمؤسسة اليمينية التي يمثلها ويقودها نتنياهو رأياً آخر، أن المستوطنين وأفراد الأحزاب الدينية يمثلون رديفاً للجيش والشرطة، وأن المستوطنين هم طلائع صهيونيون يستكملون المشروع الصهيوني، ومن هؤلاء إيتمار بن غفير الذي يسعى إلى تشكيل حرس وطني لمضاعفة مناخ التنكيل بالفلسطينيين في القدس وعموم الضفة الغربية المحتلة كما داخل الخط الأخضر.
تجيز الشرطة الإسرائيلية منذ 20 عاماً استباحة الأقصى، وتتولّى حراسة المعتدين، وتمنحهم أربع ساعات ونصف ساعة صباحاً وساعة بعد الظهر لخمسة أيام متصلة في الأسبوع
تجيز الشرطة الإسرائيلية منذ 20 عاماً استباحة الأقصى، وتتولّى حراسة المعتدين، وتمنحهم أربع ساعات ونصف ساعة صباحاً وساعة بعد الظهر لخمسة أيام متصلة في الأسبوع. وقد بدأ الإذن لعشرات من المتطرّفين، فلمّا تبيّن أن ردود الفعل العربية والإسلامية باهتة، دونما اتخاذ أية إجراءات، فقد أخذ عدد المعتدين يزداد باضطراد من بضع عشرات إلى بضع مئات، حتى ازداد العدد أخيراً وفاق الألف معتدٍ، وكانت المناسبة الاحتفال بعيد العرش اليهودي، وسبق ذلك يوم 27 يوليو/ تموز الماضي أن بلغ عدد المعتدين رقماً قياسياً هو 2140، وتقترن الحراسة اللصيقة لقطعان المعتدين بالتنكيل بالمصلين الذين يؤمّون المسجد وساحاته، بما في ذلك الاعتداء على النساء والفتيان.
وعلى مدار العقدين الماضيين، لا شيء ولا أحد يعيق الاستيلاء على قلب القدس ونواتها وروحها ممثلة بالمسجد الأقصى، سوى بطولات المرابطين والمرابطات وصمود الحرّاس والعاملين ضمن أوقاف القدس، غير أن هؤلاء جميعاً لا يتمتّعون بأية حماية تُعينهم على الصمود أمام الجحافل المسلحة. ويسترعي الانتباه أن زيادة وتيرة الاعتداءات، وتضاعف عدد المعتدين، قد اقترنا، منذ نحو عام مضى، بتشكيل حكومة المستوطنين التي يقودها نتنياهو. وهو سلوك غير منقطع عن استهداف الأماكن المسيحية في المدينة الفلسطينية المقدّسة، فقد شهدت الفترة الأخيرة تكرار ظاهرة بصق متدينين يهود على مواكب مسيحية تواظب على المرور منذ أمد طويل في الشوارع الداخلية للقدس القديمة، وقد رفضت سلطات الاحتلال طلب الكنائس والأديرة في القدس وحيفا بتأمين حماية لها من اعتداءات المتطرّفين اليهود، بالرغم مما قيل عن اعتقال عدد من المعتدين. وسبق للوزير إيتمار بن غفير أن صرّح بأنه لا يعتقد أن "التقليد اليهودي بالبصق عند مرور المسيحيين يُعدّ مخالفة أو جناية"، فيما يبرّر بعض رجال الدين السلوك المُشين تجاه قادة روحانيين لدين آخر بكونه "تقليداً يهوديًا طيباً ومحموداً".
على هذا، يمضي المتطرّفون في نهجهم، وبرعاية الحكومة الأشد تطرّفاً (حتى تاريخه...) ويسعون من خلال ذلك إلى الاستيلاء على الأقصى وما بداخله وما حوله. وبانتظامهم بهذه الاستعراضات العدوانية، يبثون رسالة سياسية مفادها بأن استباحة ثاني مقدّسات ملياري مسلم هي بمنزلة حقّ مكتسب لهم، وبدليل أن أحداً لا يتحرّك لوقف هذه التعدّيات، وذلك في تحدٍّ صارخ للعالم الإسلامي بسائر مكوّناته ومشتملاته، وفي استفزاز جسيم للوصاية الأردنية على الأماكن الإسلامية والمسيحية في القدس ولهيئة أوقاف القدس التي تضم بضع مئاتٍ من السدنة والمقرئين والحرّاس والدعاة ممن يتولّى الأردن تأمين رواتبهم.
كان الظن أن السلطات الإسرائيلية سوف تراعي، ولو من باب اللياقة، ظروف التقدّم على مسار التطبيع، فتضع حدّاً للانتهاكات الجسيمة على الأقصى
غير أن المثير للعجب في هذه الظروف أن تصاعد الاعتداءات على المسجد الأقصى يتزامن مع مسار التطبيع الذي يحقّق، كما يقول مسؤولون أميركيون وسعوديون وإسرائيليون، تقدّماً متزايداً. وقوام الرسالة الإسرائيلية في هذا المقام، والتي تنبض بها هذه الأحداث، أن التقدّم على طريق التطبيع مع الرياض لا يتعارض مع المواظبة المطّردة على استباحة المسجد الأقصى، وأن التطبيع شيء، فيما اقتحام "جبل الهيكل"، حسب التسمية اليهودية للأقصى المبارك، شيءٌ آخر يفترق عن التطبيع، ولا يتصل به. وقد كان الظن أن السلطات الإسرائيلية سوف تراعي، ولو شكلياً ومن باب اللياقة، ظروف التقدّم على مسار التطبيع، فتضع حدّاً للانتهاكات الجسيمة، وتُبدي قدراً من الاحترام الفعلي لمقدّسات المسلمين، فيما هي تتلهف للتطبيع مع أكبر دولة إسلامية، وهي السعودية التي تحتضن الكعبة المشرفة والمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، فيما يعدّ المسجد الأقصى في القدس أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين. وثمّة تكامل بين هذه المعالم الدينية المقدّسة في نفوس المسلمين، ينعكس بالتواصل الروحي بين ملايين المؤمنين الذين يتّجهون بأنظارهم وأفئدتهم صوب مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة والقدس الشريف سواءً بسواء. لكن شيئاً من تلك المراعاة وذلك الاحترام نحو مقدّسات المسلمين لم يصدُر عن سلطات الاحتلال، وحتى عقب صدور بياناتٍ شديدة اللهجة من الخارجية السعودية ضد ما تقترفه سلطات الاحتلال من "ممارساتٍ تقوّض جهود السلام الدولية، وتتعارض مع المبادئ والأعراف الدولية في احترام المقدّسات الدينية". وفي بيان لها يوم 18 سبتمبر/ أيلول الماضي، أعلنت الخارجية السعودية "إن هذه الممارسات تُعدّ تعدياً صارخاً لكافة الأعراف والمواثيق الدولية، واستفزازاً لمشاعر المسلمين حول العالم". وحمّلت الخارجية "قوات الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن تداعيات استمرار هذه التجاوزات"، مطالبة المجتمع الدولي "بالاضطلاع بمسؤولياته لإنهاء تصعيد الاحتلال الإسرائيلي، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين".
وتفيد الخبرة المتأتّية من متابعة السلوك الإسرائيلي بأن سلطات الاحتلال لن توقف نهجها العدائي، غير أن تنامي هذه التعدّيات الصفيقة في الظرف الراهن يدفع إلى مراقبة انعكاس ذلك على مسار التطبيع في الأسابيع المقبلة.