التظـاهرة التي تزعج
تحوّلت تظاهرة لندن ضد الإبادة في غزّة إلى الهدف الأول لحملة التهويل بخطر الراديكالية بهدف إسكات الأصوات الناقدة للرعب المتواصل في غزّة. ليس من المبالغة القول إن تظاهرة لندن تحوّلت الى التعبير الأوسع للتضامن مع ضحايا الإبادة، ولإدانة نظام الفصل العنصري في إسرائيل، لكنها تجاوزت، إلى حد كبير، مجرّد التنديد بالإبادة الإسرائيلية لتتحوّل إلى منصّة للتضامن العالمي ضد العنف وكل أشكال الفصل العنصري والتمييز. التظاهرة التي هاجمتها شخصياتٌ وتشكيلاتٌ حزبية، بما في ذلك رئيس الحكومة، ريشي سوناك نفسه، على أنها منصّة لإنتاج التطرّف، تحوّلت إلى المعارضة الأكثر شعبية للسياسات التي تستهدف بشكل خاص ميزات أساسية، ومنها الحق بالتظاهر السلمي والتنوع، وهو طالما اعتبر مصدر غنىً للمجتمع البريطاني الذي يتمتع بدرجةٍ عالية من السلم الأهلي، مقارنة بجيرانه الأوروبيين، في العلاقات بين المجموعات الدينية والإثنية.
في مقالة نشرت هذا الشهر على الصفحة الأولى لصحيفة "الديلي تلغراف" اليمينية واسعة الانتشار، شن مفوّض الحكومة لمكافحة التطرف، روبن كوكس، هجوماً على تظاهرة لندن التي تجتذب كل شهر مئات الآلاف من المشاركين من كل أنحاء البلاد، محذّراً من أن لندن تتحوّل إلى "منطقة محظورة" على اليهود البريطانيين في نهاية الأسبوع، بسبب التظاهرة التي ترفع شعاراتٍ ضد إسرائيل، والتي تشكّل، برأيه، خزّاناً لإنتاج التطرف. جاء المقال لمفوض الحكومة الذي يعمل أيضاً مستشاراً لدى مركز أبحاث هنري جاكسون اليميني الليكودي في لندن، بعد سلسلة من التصريحات الرسمية تمهّد لتقييد التظاهرة التي لم يخفّ وهجها رغم محاولات الشيطنة والانتقادات ضدها. كانت وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافر من وصفت التظاهرة بأنها "مسيرات الحقد" متّهمة الشرطة بالتهاون في التعاطي مع المتظاهرين عبر تطبيق "معايير مزدوجة" في التعامل مع متظاهرين آخرين، مثل ناشطي اليمين المتطرّف. ذهب رئيس الوزراء الحالي، ريشي سوناك، في الاتجاه نفسه، مستخدماً فزّاعة التطرّف في التحذير من تأثير التظاهرة في السلم الأهلي، مندّداً بأن "حكم العصابة يحلّ محلّ الحكم الديمقراطي"، وأن الشارع بات تحت سيطرة "مجموعات صغيرة لا تحترم قيمنا الديمقراطية". البروتوكول الجديد للشرطة الذي قدّمه سوناك تحت عنوان "حماية الديمقراطية" يفرض حزمة من الإجراءات، منها منع التظاهر أمام بيوت النواب أو الشخصيات العامة المنتخبة، باعتباره مصدر "تهويل" لهم، والطلب من المتظاهرين إشهار وجوههم. ليس التهويل من وجود مناطق "محظورة" بسبب السيطرة المزعومة لمجموعات متطرّفة جديداً، بل غالباً ما يتردّد في سرديات اليمين واليمين المتطرّف من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى نوّاب منتخبين وناشطين ومؤثّرين في وسائط التواصل الاجتماعي، كادّعاء أن مدينة بيرمنغهام البريطانية باتت منطقة محظورة لوجود مجموعاتٍ واسعةٍ من المسلمين من أصول آسيوية. جديد هذه التعبيرات أخيراً تصريح النائب المحافظ (انشقّ عن الحزب أخيراً)، لي أندرسون، أن عمدة لندن العمّالي، صادق خان، يعمل تحت سيطرة الإسلاميين.
تحوّلت تظاهرة لندن الى التعبير الأوسع للتضامن مع ضحايا الإبادة، ولإدانة نظام الفصل العنصري في إسرائيل
باتت تـظاهرة لندن ضد الإبادة في غزّة إحدى حلبات الصراع في ما تسمّى الحرب الثقافية بين المنادين بالهوية الثقافية الخاصة والخوف من ابتلاعها أو القضاء عليها على يد الهجرات الجماعية الكثيفة ورُهاب ما يُسمّى المدّ الإسلامي وبين المنادين بأهمية التنوّع والاعتراف به كإثراء للمجتمعات المضيفة وضرورة معالجة إرث الاستعمار والاعتراف بحقوق المجموعات المهمّشة وغيرها من الشعارات التي باتت تصنّف "راديكالية". تظاهرات الدعم لفلسطين التي انتشرت في مدن أوروبية وأميركية عدّة هي أيضاً مسرح لصراعٍ مضمر بين الأجيال، إذ يقود الحركة المطلبية شبّان وشابات، بشكل خاص طلاب جامعات يعبّرون عن اعتراضهم لسياسات المؤسّسات السياسية والثقافية، ومنها جامعاتهم عبر عرقلة محاضرات أو اقتحام مكاتب أو تعليق شعارات داخل قاعات المحاضرات. رغم التهويل بالعقاب، باتت هذه التعبيرات تشكّل حيّزاً من الحياة اليومية في هذه المؤسّسات.
التصريحات السياسية الأخيرة، التي تُوِّجت بتبني الحكومة تعريفاً جديداً للتطرف نقلت التظاهرة والجدل حولها من الحيّز الحقوقي والمطلبي الذي لا علاقة له بحماس أو بهجمات 7 أكتوبر، إلى حيّز الخطر الأمني الذي نجحت حكومات المحافظين في تسييسه ليتحول إلى سردية مؤثرة في مواجهة سردية التنوع وأهميته في المجتمع البريطاني. يعتبر التعريف الجديد للتطرف أنه "الترويج أو الدعم لأيديولوجية تعتمد على العنف والحقد أو عدم التسامح، وتهدف إلى: أولاً، نكران الحقوق والحريات الأساسية للآخرين أو تدميرها. ثانياً، تقويض أو قلب أو استبدال نظام المملكة المتحدة للديمقراطية البرلمانية الليبرالية أو الحقوق الديمقراطية، أو ثالثاً، تعمّد إيجاد بيئة مسهلة للآخرين لتحقيق النتائج في الحالتين الأوليين". وبحسب هذا التعريف، فإن الأشخاص أو المؤسّسات الذين قد يضافون إلى لائحة المتطرّفين لن يحاكموا بالضرورة أو يتم تجريمهم على أعمالهم، بل سيمنعون من ممارسة حقوق أو التمتع بمزايا معينة، منها مثلاً الحصول على تمويل حكومي.
تعتبر تظاهرة لندن في مقدّمة الأهداف المحتملة للتعريف الجديد للتطرّف، ما سيعزّز محاولات شيطنتها، مثل تشبيهها بتظاهرات اليمين المتطرّف
يفتح التعريف الجديد للتطرّف الباب واسعاً أمام تصنيف التعبيرات الخارجة على الخطاب السياسي المقبول بأنها تعبيرات متطرّفة، ما سيضع الأشخاص أو المؤسّسات الموصومين بها في خانة المشبوهين، ولو أنهم قد لا يتعرّضون للمحاكمة أو يتم تجريمهم. والأكثر إثارة للقلق، أن التعريف الجديد للتطرّف لم يعد يرتكز على الفعل، بل على الأيديولوجيا، ما يترك المجال واسعاً للتأويل وللاستخدام السياسي. رغم أن التعريف الجديد لا يحمل أي وزن قانوني، إلا أن تهمة التطرّف باتت بذلك وصماً لا يرتكز على آلية قانونية تتيح لمن تلصق بهم إمكانية دحضها من طريق الاستئناف.
تعتبر تظاهرة لندن في مقدّمة الأهداف المحتملة للتعريف الجديد للتطرّف، ما سيعزّز محاولات شيطنتها، مثل تشبيهها بتظاهرات اليمين المتطرّف أو تغاضي الإعلام عن تغطيتها رغم أجتذابها مئات الآلاف من المشاركين، ما عدا تركيزه على أخبار الاعتقالات التي لم تتجاوز أعداداً ضئيلة جداً. إلا أن التظاهرة ليست سوى حجّة للتضييق المتزايد على أشكال التظاهر السلمي في البلاد ومحاولة للاستخدام السياسي في ما يُسمى الحرب الثقافية وتداعياتها على الانتخابات المقبلة في البلاد. إلى حينه، سوف تستمرّ تظاهرة لندن ضد الإبادة بالإزعاج عبر إيجاد مساحاتٍ جديدةٍ للتعبير خارج الخواء السياسي، ورغماً عنه.