التفاتة إلى "رسالة الغفران"
ليس الخبر، ربما، أنهم في تونس، ضمن "تغييراتٍ طارئةٍ" (التعبير رسمي) على منهاج مادّة اللغة العربية في الفرع الأدبي للبكالوريا (الثانوية العامة)، أوقفوا تدريس "رسالة الغفران" للمعرّي، وإنما أنهم، منذ أكثر من خمسة عقود، كانوا يدرّسون هذا النص المثير، والعسير، والجريء، في المدارس. وإذا صحّ ما رآه منتقدو القرار أنه شاهدٌ على "ردّةٍ فكريةٍ" راهنةٍ في تونس، فقد يصير، استنتاجا أو قياسا، أننا كنّا نقيم في هذه "الردّة"، نحن الذين مرّ علينا أبو العلاء، إبّان كنا تلاميذ في سبعينيات القرن الماضي، شاعرا عابرا في المناهج التي درسْناها. أما عن أبنائنا وأحفادِنا في الثانويات الراهنة فمن الكياسة، ربما، أن لا يُفتَح هذا الطابق كله. ولمّا قطعوا في بلدة المعرّي، معرّة النعمان في محافظة إدلب في سورية، رأس تمثاله، قبل 11 عاما، فقد تجيز هذه الفعلة المرذولة القول إن الذين ارتكبوها علموا عنه ما لا يستقيم مع ما في رؤوسهم، ويناهض حرّية الرأي والخيال والتفكير والسؤال والمجاز وإعمال العقل. وأيا كان الحال، ظلّ الشاعر الضرير، الفيلسوفُ في واحدةٍ من صوره، مغبونا في الثقافة العربية العامة، وإن اهتمّ به الدرس النقدي والأكاديمي العربي، وربما يعود هذا الاهتمام إلى انشغال طه حسين بأبي العلاء، وقد اختارَه موضوعا لأطروحته في الدكتوراة، وأنجز عنه ثلاثة كتب (من دون أن يحبّه، على ما كتب!). ولنا أن نراهما جهديْن شائقيْن، المؤلَّف الرائق للشيخ عبدالله العلايلي "المعرّي ذلك المجهول"، وقراءة أدونيس المهمّة لصاحب "سقط الزند"، لمّا نزع عنه صفة الفيلسوف، ورآه شاعرا بلا طريقة.
أما عن "رسالة الغفران" التي بات تلاميذ الثانوية العامة في تونس في حلٍّ من عنائها، فهي نصٌّ محتشدٌ بكل ما يحضُر في الأدب، النثر منه والشعر، حيث السرديُّ والحواريُّ والوصفيُّ والحقيقيُّ والمتخيّل، وثمّة الالتباساتُ والمفارقات، وثمّة حسّ المفارقة والسخرية، ثمّة الكثافةُ والاسترسال، وثمّة ما يجيز وصفَه بالمسرحي، حيث تعدّد الشخصيات وتقاطعاتها ومخاطباتها. وإلى هذا كله، وغيره، ثمّة "مرسلاتٌ" (أو شيفراتٌ بتعبير آخر) مضمرةٌ غالبا، تتغلّفُ بغموضٍ تجعل وقوعك على المقاصد والأغراض أمرا غير هيّن. ولمّا كان هذا النص، الخارق للمألوف بوصف صديقنا حاتم الصكر، يتعلّق بأحوالٍ في الجنّة والجحيم، وإنْ في رحلةٍ متخيّلةٍ يحاور فيها المعرّي شعراء ورواةً ونحاة و...، فإنه اشتمل على تصوّرات كاتبه عن العالم الآخر، وعن الدين، وعن الحياة والموت، بسَطها بتورياتٍ واستعاراتٍ ومجازات، وباستئناسٍ بآياتٍ قرآنية، وبأبياتٍ وفيرةٍ من الشعر، وبأخبارٍ عن حوادث ووقائع. ولم يُنشئ صاحب "لزوم ما لا يلزم" عمله المركّب الذي قام في مبناه رسالةً جوابيةً على رسالةٍ لشيخٍ حلبيٍّ، اسمُه ابن القارح، بلغةٍ هيّنةٍ، بل أفاد من كلماتٍ غريبةٍ، قليلة الاستعمال، فحضرت هذه في متن سردٍ مسترسل، بدا جذّابا في مواضع عدّة، غير أنه بدا نافراً في مواطن أخرى. ولم أقع على ما صنَعه فرحان بلبل في عصرنته "رسالة الغفران"، لمّا أعاد صياغة تراكيب كثيرةٍ فيها، واستبدل مفرداتٍ بأخرى، غير أن جهدا كهذا يدلّ على انجذابٍ خاصٍّ أقام عليه المسرحي السوري نحو نصٍّ لا شطَط في الإشارة إلى صعوبته، إلى عويصٍ غير قليلٍ فيه، وإلى سحرٍ غزير أيضا، في آن.
لم يتزيّد عبّاس العقاد، وهو الذي رأى أبا العلاء شاعرا ليس عظيم الحظ من الخيال (بتعبيرِه)، لمّا كتب إن "رسالة الغفران" نمطٌ وحدَها في آدابنا العربية، .. وفكرةٌ لبقةٌ لا نعلم أن أحدا سبق المعرّي إليها". وأحسبُ أن عبدالله العلايلي أصاب قدرا باهظا من الصحّة، لمّا كتب إن المعرّي أعطى في نصّه الثقيل القيمة "أقدم أثرٍ رمزيٍّ رائع، يجعله الخليقَ بأن يُعدَّ أبا للرمزية في الأدب، كل الأدب". أمّا نجيب سرور الذي وجد هذا النص "عملا سياسيا قبل أن يكون شيئا آخر" فقد غالى، وإنْ في وُسع دارسٍ على سعةٍ في معرفة المعرّي أن يلحظ وجها على هذا النحو لهذا المنجز الأدبي الثريّ المغازي. أما أهل تونس ممن درسوا في ثانوياتهم هذا المصنّف مما دوّن "رهين المحبسيْن"، كما سمّى أبو العلاء نفسَه، فقد يستشعرون بعض خُسرانٍ سيصير عليه التلاميذ من بني جلدتهم ممن لن يقرأوا "رسالة الغفران" على مقاعد الدرس .. كما نحن الذين لم نجرّب أمرا عجيبا وثمينا كهذا.