04 نوفمبر 2024
التنوير هراوةً في 2017
رداءاتٌ غير قليلةٍ عرفتها الثقافة العربية، في غضون عام 2017، من أكثرها سخافةً الابتذال الذي ألحقه عاملون في الثقافة والإعلام، في غير بلدٍ عربي، بمفهوم التنوير، عندما تشاطروا، ومارسوا استخداما له بالغ الدعائية. وأيضا عندما بلغ التورّم فيهم حدّا، توّهموا، في أثنائه، أنهم وحدهم أهل التنوير، وأن إطنابهم في تقسيم الناس إلى تنويريين وظلاميين هو الأوْلى بالأخذ بهدْيه. وللدّقة، فطن هؤلاء إلى خرّافية التنوير هذه في عام 2012، ثم نشطوا في استرسالهم المُضجر فيها، لكنهم صاروا أكثر همّةً في العام الذي يغادر اليوم، فقد بدا أكثر وأكثر أن التنوير الذي يعتنقونه هراوةٌ يرفعونها قدّام من ليس على سكّتهم، بتفاصحهم، الطريف أحيانا، وهم يرطنون بالعبارات إياها عن الظلاميين والإسلاميين والتكفيريين والإخوانيين، وعن "تجديد الخطاب الديني". وما يدعو إلى الإشفاق على هؤلاء، وهم يفعلون هذا، أي وهم يصنعون سلة الإرهاب والتطرّف التي يضعون فيها حسن البنا ومحمد مرسي و"داعش" وقناة الجزيرة ودولة قطر وحركة النهضة ويوسف القرضاوي، أنهم لم يجترحوا ابتكارا غير مسبوق، وإنما فعل مثل هذا قبلهم مستشرقون مستعجلون، زاولوا خراريفَ مشابهةً في دوائر ومؤسساتٍ، أميركيةٍ وأوروبيةٍ، قيل لنا إنها علمية وأكاديمية، لكن أجهزة المخابرات هناك لم تنتفع بصنيعهم هذا، وراحت تسلك دروبها الخاصة التي تُمايز بين أسامة بن لادن وزكي بني ارشيد. ولكن أمرا مهما غاير فيه أصحابُنا أولئك أصحابَهم هؤلاء، هو أن الأخيرين لا يستثنون مشايخ العربية السعودية من السلّة نفسها، فيما التنويريون من الصنف المتحدّث عنه هنا يحترزون من الوقوع في فعلةٍ كهذه، لو اقترفوها لأوْدت بأرزاقهم وأكل عيشهم.
ما كانت مهنة التنوير لتتيسّر لهؤلاء الناشطين، فيواظبون بدأبٍ ظاهرٍ عليها، مستخدمين عُدّة الأساتذة الجامعيين والكتّاب والإعلاميين، وهم يبذرون كلامهم الكبير، لو أن محمد مرسي لم يحرز الفوز برئاسة مصر في صيف 2012، ولو أن المصريين لم ينتخبوا أعدادا باهظةً من "الإخوان المسلمين" في انتخاباتٍ نيابيةٍ في ذلك العام (لا مشكلة في فوز السلفيين!). لو لم تأت صناديق الاقتراع في أرض الكنانة بهؤلاء، لما استجدّ ما يستدعي حرب التنوير ضدّهم، وضد من يناصر حقوقهم باعتبارهم بشرا، ولما أقامت أبوظبي مؤسساتٍ إعلاميةً، إلكترونيةً وتلفزيةً ومطبوعة، بغرض تشغيل الأساتذة والكتّاب والمعلقين والصحافيين أولئك، في منطوق هذه الحرب، والتي وصلت إلى ذروةٍ عاليةٍ في 2017، عندما بات التنوير هراوةً، تتسلح بمحكيات عبد الفتاح السيسي عن تجديد الخطاب الديني، ومراجعات ثروت الخرباوي.
والغريب العجيب في شغل هؤلاء، في أبوظبي والقاهرة وغيرهما، أنهم لا يسألون أنفسهم إلى من يتوجّهون بكل منتوجاتهم الكلامية النشطة. من هم بالضبط الذين يشجّعون الإرهاب والتطرّف والتكفير؟ يتمادى هؤلاء، وبقلة حياء، ومن دون أن يعدّوا إلى العشرة، عندما يتطاولون، أحيانا، علينا في "العربي الجديد"، وعلى شركائنا في الضفة المناهضة لقوى الثورات المضادّة ومعسكرات التشبيح الإعلامي، نحن المنحازين للديمقراطية ولا شيء غيرها، الذين نرفض كل استبداد، ونزاول بحريةٍ ومسؤوليةٍ نقد الإسلام السياسي، وكذا الرمي على "الإخوان المسلمين" بكثيرٍ يُؤاخذون عليه، من دون الالتحاق الذيْلي بأجهزةٍ فاشلة، تستسهل دسّ هؤلاء الناس بالإرهاب، كيفما اتفق، وقد كانوا، إلى خمس سنوات، يحظون بأفضل مقام في أبوظبي، قبل أن ينخلع مبارك، ويؤدّي شعب مصر أول انتخاباتٍ ديمقراطيةٍ بعد ثورته التي حاربتها تاليا بساطير العساكر الذين لا يستحي "التنويرون" من الصمت عن موت أكثر من أربعمائة مصري في سجونهم في أربعة أعوام.
ثمّة استبدادان، ديني وسياسي، وثمّة في الإسلام السياسي كثيرٌ مما يلزم نقدُه وتفكيكُه وهدمُه، وثمّة استبدادٌ في كل الظواهر الشمولية، وثمّة استبداد أنظمة القمع والفساد والقتل وتجويف المجال العام. وعلى كل من يخرس عن هذا، ويطيل لسانه على ذاك، أن يتوقف عن ملهاة التنوير التي يثرثر بها. من العصي أن يعرف هذه المعادلة حبيب الصايغ، وهو ينظّم في 2017 مؤتمرًا عربيًا جديدا عن الإرهاب والتكفير والتطرّف. ومن العصي، أيضا، أن يعرف ذلك من عثروا في "التنوير" على وظيفة الراتب الشهري.