الجيوش للبسالة .. لا للبقالة
كانت الجيوش، ولا تزال، مرتبطة في أذهاننا بالبسالة، والبطولة، بعيدًا عن حسابات السوق، ومعايير التكسب والتربّح، ولم يكن أشد المتشائمين يتصوّر أن يأتي يوم تستبدل فيه البقالة بالبسالة، والعمولة بالبطولة، ويأمر صاحب السلطة وزير الدفاع على رؤوس الأشهاد بالبيع بنصف الثمن، فيقول كبير الجند: حاضر يا أفندم.
هذه الإهانة المقصودة من صاحب السلطة للمؤسسة العسكرية مفهومة، ومعروفة الدوافع والأسباب، إذ يحرص، طوال الوقت، على توريط العسكرية معه في مستنقعات الدم والفشل. أما غير المفهوم، وغير المبرّر هنا، فهو استجابة أهل العسكرية لرغبات صاحب السوق الذي يكره المقاومة ويحب المقاولة، بل ويعتبرها عملًا مقدّسًا.
تمزيق ما تبقى من ملامح صورة محترمة للجيش، وتمريغها في الوحل، منهجٌ ثابتٌ عند صاحب السلطة، منذ استولى عليها، ممتطيًا قارب المؤسسة العسكرية إلى مؤسسة الرئاسة، إذ كانت البداية بتوريطها في إراقة دماء معارضيه، ثم جرت عملية استدراجها بشكل كامل إلى عالم البيزنس والتجارة، وبعد أن كانت تمارس هذا النشاط في الخفاء، أو من غير ظهورٍ كامل، باتت لا تجد غضاضةً في تقديم نفسها إحدى الشركات التابعة للشركة القابضة على الحكم، والتي هي تحالفٌ ضخمٌ يجمع أوغاد الخارج المتربص بمصر، والذي يحرص على تفكيكها والتهامها قطعةً قطعة، حتى وصلت إلى مرحلةٍ أصبحت فيها قاب قوسين أو أدنى من الوقوع تحت الانتداب الإماراتي والوصاية الإسرائيلية.
كنا نظن، وما زلنا نحتفظ ببعض الظن الحسن، أن هناك من داخل المؤسسة العسكرية من يغار على سمعتها وشرفها، حتى بالرغم مما التصق بها من أنشطةٍ مخجلةٍ ضد ثوار يناير، وصلت إلى تصفيتهم في الشوارع وإلقاء جثثهم فوق أكوام القمامة، كما حدث في مذبحة شارع محمد محمود، نهاية العام 2011.
كان ثمّة بصيص ظنٍّ حسن بأن من أهلها من يرفض إغراقها في أوحال البيزنس والسمسرة، ولا يزال مدركًا، وحريصًا على الدفاع عن التعريف الحقيقي للجيش في الدول المحترمة باعتباره مؤسسةً من مؤسسات الدولة، مملوكة للأمة وللشعب، وليس جهازًا أو أداة في يد السلطة، أو واحدة من ممتلكات النخبة الحاكمة.
كنا ولا نزال نحلم بأن هناك من نسل أفذاذ البسالة العسكرية، من نوعية الشهيد عبد المنعم رياض والفريق سعد الدين الشاذلي، من يتمرّد على محاولات تحويل مسارها إلى أنشطة البقالة، ويرفض أن يكون جيش السلطة المستبدّة، ويأنف أن يؤدّي لها أدوارًا أمنية بقمع المجتمع وقوى المعارضة، وتأمين مقاعدها، بدلًا من تأمين حدود الوطن، أو يقوم بوظائف سياسية فيتحوّل من جيش للأمة إلى جيش لطبقة سياسية، أو يمارس وظائف اقتصادية استثمارية، لحساب هذه السلطة، فيصير وكأنه صورةٌ من مؤسسات القطاع الخاص المملوكة للمجموعة الحاكمة، أو إحدى الشركات التابعة للشركة القابضة على الحكم، والتي تحتكر الأسواق وتطارد المنافسين بالسجن والإرهاب والتشريد، كما في حالاتٍ كثيرة، أوضحها حالة رجل الصناعة والاقتصاد صفوان ثابت.
من المروّع أن تفسد العلاقة بين الجيش والشعب، فتهبط إلى مستوى علاقة التاجر بالزبون، تحكمها قواعد السوق، لا قيم الوطن وأخلاقيات الأمة، تلك الأمة التي اقتطعت من لحمها الحي لكي تنشئ هذا الجيش وترعاه وتعلمه وتنميه، ليكون درعًا لها، لا سوطًا عليها.
هذه الأمة تستحلفكم بدماء من سبقوكم من الشهداء، من أحمد عرابي حتى سليمان خاطر، أن تجعلوا شرف المقاتل فوق ربح المقاول، وألا تغوصوا بأقدامكم في هذا الوحل.
مرّة أخرى: البسالة قبل البقالة، والبطولة قبل العمولة.