الحصاد المرّ للعشرية الأخيرة في مصر
مضت عشر سنوات على مذبحة ميدانَي رابعة العدوية والنهضة في القاهرة، والتي قَتَلَ فيها العسكر وجرحوا آلاف المصريين من أبناء شعبهم. قد يكون الجناة أفلتوا من العقاب، إلا أن مصر نفسها دفعت، ولا تزال، ثمناً باهظاً، جرّاء انقلابٍ دموي أنهى تجربة أول انتخابات ديمقراطية حقيقية في تاريخ البلاد، كما أطاحت أول رئيس مدني لمصر منذ إلغاء النظام الملكي، مطلع خمسينيات القرن الماضي، على أيدي ضباط عسكريين. انشغل كثيرون بأن جلَّ الضحايا كانوا من الإخوان المسلمين ومناصريهم، الذين اعتصموا سلمياً احتجاجاً على عزل الجيش الرئيس محمد مرسي مطلع شهر يوليو/ تموز 2013، وكأن انتماء هؤلاء التنظيمي أو التعاطف معهم يصلح مبرّراً لتسويغ الجريمة الشنعاء. أيُّ نزعٍ للإنسانية هذا عندما يتمُّ على أسس إيديولوجية وسياسية؟ حينها، زعم العسكر ومؤيّدوهم أن المذبحة، وما تلاها من حملات قمع وتنكيل غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث، ضرورية لاستنقاذ البلاد وللتصدّي لما زعموه إرهاباً. لم يمض عام، حتى كان وزير الدفاع، الجنرال عبد الفتاح السيسي، رئيساً لمصر عبر انتخابات ترشّح فيها مقابله رئيس التيار الشعبي المصري، حمدين صباحي. وبعد فرز النتائج، حصل السيسي على أكثر من 96.1% من الأصوات، في حين اكتفى المرشح "الكومبارس" بـ 3.9%. على أي حال، جاء السيسي لا واعداً بالأمن فحسب، بل وكذلك بازدهار اقتصادي ونهضة شاملة، فهل تحقّق شيءٌ منهما؟
أي مراقب موضوعي سيجيب بالنفي، فالمعطيات شاهد على عهد ما بعد الانقلاب العسكري لا له. رغم نكب الإخوان المسلمين وسحقهم، فإن شبه جزيرة سيناء اليوم أكثر اشتعالاً ودموية. طبعاً، يعلم الخبراء أن التوتر في سيناء لا يد لـ"الإخوان" فيه لا من قريب ولا بعيد، بل هو، في المجمل، حصيلة تراكمات من المظالم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من الدولة بحقّ سكانها وقبائلها، فضلاً عن مزاعم تتردّد عن تنافس بعض أجنحة الجيش وجهاز الأمن المركزي على تجارتي السلاح والمخدرات فيها. هذا لا يعني أنه لا توجد بؤر إرهاب في شبه جزيرة سيناء، فهناك امتداد لتنظيم داعش فيها عبر ما تسمّى "ولاية سيناء"، لكنه ليس معزولاً عن فوضى تعاطي النظام، عقودا، معها، وظلمه أهلها. يتناسى كثيرون كيف يصوّر الإعلام الرسمي وذلك المحابي للدولة أهالي سيناء. يتناسون كيف وقفت قبائل شمال سيناء مع الجيش في حربه ضد "داعش" في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى إعلان الدولة انتصارَها عليه مطلع هذا العام، فكان جزاء تلك القبائل، بعد ذلك، مطالب بنزع السلطات أراضيها في مدينتي رفح والشيخ زويد، بعد أن كانت صادرت من قبل أراضي العريش. ويتمّ ذلك كله باسم الأمن القومي، وكأن سيناء وأهلها يدفعون ثمن فشل الجيش في حمايتها من الاحتلال الإسرائيلي عام 1967.
سعر صرف الدولار أمام الجنيه المصري ارتفع، خلال عشر سنوات، من أقل من سبعة جنيهات إلى 40 جنيهاً
لا يقتصر الأمر على حدود سيناء وفي نطاقها، فمصر اليوم التي فيها عشرات آلاف من السجناء السياسيين تعيش حالة من الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وما يترتّب على ذلك من جرائم غير معهودة في المجتمع، وفلتان أمني كبير، وقمع غير مسبوق. في مصر ثمَّة تراتبية في الفساد والقمع، من القمّة إلى القاع. في السنوات العشر الأخيرة، أي منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح مرسي وَسَحَقَ مناصريه، بنى النظام، حسب ورقة أصدرتها "مبادرة الإصلاح العربي"، في الأعوام ما بين 2013 – 2021، سبعة سجون على الأقل تحت إدارة مصلحة قطاع السجون، ما يرفع عددها إلى 49. وهذا لا يشمل 30 أخرى أنشئت تحت إدارة هيئات أخرى تابعة لوزارة الداخلية، لتصل إلى 168 تقريباً، عام 2021. دع عنك عشرات غيرها في مراكز الشرطة. كلفت هذه السجون خزينة الدولة مئات الملايين من الدولارات، في بلد يعاني تضخّماً رهيباً وانهياراً اقتصادياً وشيكاً. ومع ذلك، لا تجد السلطات الأمنية أماكن لزجّ عتاة المجرمين الذين يروّعون المجتمع، فقد أتخمت هذه المعتقلات الرهيبة التي توثق المنظمات الحقوقية المحلية والدولية ممارساتها غير الإنسانية بالمعتقلين من كل الخلفيات الفكرية والسياسية، بناء على أنشطتهم الحقوقية والمدنية، وهي بذلك لم تعد حكراً على "الإخوان" والإسلاميين وحدهم، بل طاولت حتى بعض من أيّدوا انقلاب عام 2013 وهلّلوا له.
لا يجد السيسي ذرائع إلا تحميل الشعب "وزر" ثورته في يناير 2011، مع أنه يناقض نفسه وهو يخاطبهم بقوله "أجيب منين"؟
أما إذا أردتَ أن تتحدّث عن مصير الازدهار الاقتصادي الموعود فحدّث ولا حرج. سعر صرف الدولار أمام الجنيه المصري ارتفع، خلال عشر سنوات، من أقل من سبعة جنيهات إلى 40 جنيهاً. واليوم يتردّد صندوق النقد الدولي، بل وحتى بعض الدول الخليجية، التي أيّدت انقلاب 2013، في دعم خزينة البلاد المفلسة. هم يطالبون مصر بإصلاحاتٍ هيكليةٍ وبنيويةٍ لاقتصادها وتقليص سيطرة الجيش عليه. لكن الجيش يناور ويمانع، بل ويوسّع سطوته ويعزّز نفوذه في الاقتصاد، في حين يبدو السيسي عاجزاً أمام من يدين له بوصوله إلى كرسي الرئاسة والبقاء فيه. ليس هذا فحسب، فقد ارتفع معدّل التضخّم ما بين 2013 – 2023، من 10.3% إلى حوالي 36%. المفارقة، أن الإعلام المصري المؤيد للدولة العميقة، الذي شنَّ حملة شعواء على مرسي عام 2013، على خلفية ارتفاع التضخّم إلى 10.3%، هو من يصمت، أو حتى يبرر لنظام السيسي اليوم! أما على مستوى المديونية، فقد ورث السيسي 43 مليار دولار من مرسي، الذي ورث جلها الأعظم (34.4 مليار دولار) من نظام حسني مبارك، إذ لم يمكث مرسي في كرسي الرئاسة إلا عاماً، أما اليوم، فهي تناهز 163 مليار دولار.
يمكن أن يقال الكثير، ويضاف هنا إلى حصيلة سنوات عشر بعد الانقلاب ومذبحتي ميداني رابعة والنهضة، من التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير في خليج العقبة في البحر الأحمر للسعودية عام 2016، إلى طرد مواطنين مصريين من عقاراتهم وأملاكهم، والتي شملت القاهرة نفسها، بذرائع شتى، كإزالة التعدّي عن أراضي الدولة، أو لمزاعم تطويرية واستثمارية، إلى غياب سلع أساسية كثيرة من الأسواق، وتراجع مستويات التعليم والصحة، إلى القمع والفساد، إلخ. ما سبق غيض من فيض. أمام ذلك كله، لا يجد السيسي ذرائع إلا تحميل الشعب "وزر" ثورته في يناير 2011، مع أنه يناقض نفسه وهو يخاطبهم بقوله "أجيب منين"؟ بمعنى أنه لا يملك رؤية لمصر ومستقبلها والنهضة التي وعد بها. عشر سنوات كانت كارثية على مصر، بعد ذلك، أتُرى تتعلّم الشعوب الدرس، أن العسكر إن حكموا فسدوا وأفسدوا؟