الخبز والكتب
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
فئة من الناس لم يعد الخبز يشكّل لهم أهمية غذائية، وهناك من حذفه مع الوقت من سلة مشترياته، حيث يمكنك في المجمّعات (المولات) الكبيرة أن تلمح سلال مشتريات بلا خبز، بعد أن كان الخبز يتبوأ تلة المشتريات. ولكن، ماذا لو جرّك الفضول إلى رؤية الأماكن التي يباع فيها الخبز، وصبرت قليلاً من أجل الحصول على نتائج تقريبية عن الكميّات المباعة منه؟ ستكتشف، مع صبر الترقّب ومرور الوقت، أن موضوع التقليل من تناول الخبز فئوي جداً، وأشبه بالوهم. وإن راج الصوم عنه (الخبز) بسبب الميديا الجديدة التي تحرّض على برامج الحِمية، فذلك كله لا يصمد أمام مشاهدات الواقع الخبزي، فبمجرّد ما تقف أمام أقسام بيع الخبز في أي سوبر ماركت، أو عند المخابز المستقلّة في الأحياء الشعبية والحارات، أو تنظر في عبورك السريع بالسيارة إلى محلات بيع الخبز التي لا يخلو منها أيّ حي فيه سكان، وأحيانا أكثر من مخبز في الحي الواحد، رغم وجود الخبز أيضا في معظم الدكاكين، إلا وتراها الأكثر حركة وبشراً ونشاطا شرائيا. ناهيك عن بائعي المعجّنات والحلويات، وكل ما يكون ضمن مصادره القمح والنشا والسكر، فالزحمة على أشدّها، رغم تقليعات الكيتو والدايت وهجران المخبوزات.
لا يجب أن ننسى أن عددا غير هين من فئات المجتمع لا تصبر عن الخبز، ويمكن الحديث هنا عن الأطفال، مثلا، الذين لا تعنيهم مثل هذه الحسابات المعقدة، يمكن أن يُضاف إلى القائمة أيضا كبار السن الذين يستمتعون بأكل الخبز، بل لا يتصوّرون وجبةً لا يكون الخبز في مقدّمتها، بل يقوم الخبز مقام الملعقة في كثير من المجتمعات الشرقية، خصوصا في بلدان شبه القارّة الهندية. هناك أيضا بائعو الشاورما المنتشرون في المدن، والذين يشكل الخبز الغلاف الوحيد لسلعتهم، أولئك أيضا تشهد مساءاتهم زحمة وتدافعا، سواء من الجالسين في الكراسي المفتوحة خارج المطاعم، أو من الجالسين كذلك، ولكن في كراسي سياراتهم ينتظرون تلبية طلبياتهم.
لا يوزاي طوابير الخبز شيء، وربما أقرب مقارنة له، وإن كانت موسمية، مقارنة شراء الخبز بشراء الكتب. وقد ساور كثيرين قلقٌ بسبب جائحة كورونا على الإقبال على الكتب. ربما هي معاناة مؤقتة ستنجلي، كما حصل مع "الكيتو" وأشباهه بالنسبة للخبز. لا بد أن الكتب أصبحت تُعاني، مع الوقت، من مستوى الإقبال المتدني عليها، والدليل ما شهدته معارض الكتب بعد جائحة كورونا من فتور. معرض مسقط، مثلا، في دورته بعد الجائحة، لم يكن بالمستوى المطلوب قياسا بسنوات سابقة. والسبب ربما لأن الآثار الانسحابية للجائحة ما زالت سارية. ولم يندفع الناس، كما السابق، لدخول المعرض، وفي أيدي بعضهم حقائب سفر من أجل ملئها بالكتب. والسبب ربما لأنه حصل نوعٌ من التشبّع بسبب المكوث البيتي الطويل، وهناك ما لا يمكن تجاهله، وهو الرواج الكبير الذي أصبحت عليه كتب القرصنة الإلكترونية. حيث تشكلت "غروبات" لهذا، توصل الكتاب المقرصَن بنقرة إلى أكبر جماعة ممكنة من القرّاء. ورغم ذلك، لا أظن أن ثمّة خوفا على الكتاب، في المستوى المنظور على الأقل، لأن الإلكتروني ليس كالورقي. ولا شيء يضاهي الورقي بسبب حميميّته، فالإلكتروني لا يخلو من إكراهات. على سبيل المثال، على من اعتاد أن يقرأ كتابا من حاسوبه، في كل مرّة، أن يأخذ هذا الجهاز معه أينما حلّ، وهل يستطيع أن يفعل ذلك في الطائرة مثلا؟ فليس لدى الجميع قوة العينين، لكي يقرأ من شاشة الهاتف الصغيرة. الكتاب ليس مجرّد ورق، إنما علاقة وملامسة وأسطر مكتوبة. هذا في الجانب النفسي النوستالجي، أما في الجانب الصحّي، فالقراءة من الكتاب أريح وأصح للعين والذهن، وهي أجمل، وتمتلك ذاكرتها وتقاليدها.
ومن يعلم، مثل ما حدث مع طوابير الخبز، يمكن أن يحدُث مع الكتب، مع ازدياد أعداد دور النشر بين سنة وأخرى. يمكن أن ينبئ ذلك كله بأن الحركة الشرائية للكتب في طريقها إلى التعافي. وإذا كان الخبز هو الغذاء التقليدي اليومي الأرسخ للمعدة، والرمز (الواقعي والشعري) الأبرز للحياة والقوة، فإن الكتاب أيضا هو الغذاء التقليدي الراسخ للعقل، خصوصا ونحن الآن في خضم بدايات معارض الكتب العربية في موسمها الشتوي الدائم.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية