"الخلطة السرّية" للحرب العالمية المقبلة!
ما الذي يعنيه انتقال تعبير "الخلطة السرية" من إعلانات الوجبات السريعة إلى قاموس التحليل السياسي؟... سؤال تفرضه تداعياتٌ بدأت منحناها الصاعد في فبراير/ شباط 2022 بقرار غزو أوكرانيا، ووصل إلى قمّته بتحذير أطلقه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة قريباً، وبين النقطتين كثير مما ينبغي الوقوف أمامه طويلًا.
كتب الباحث الأميركي هال براندز، وهو أستاذ كرسي هنري كيسنجر للشؤون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدّمة في جامعة جونز هوبكنز، في تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز الأميركية أخيراً عن تشابه المشهد العالمي الراهن ومشهد ما قبل الحرب العالمية الثانية. وأحد أكثر المفاتيح أهمية في تحليله "الصراعات المتشابكة"، والحرب العالمية الثانية، كان صراعاً واحداً شاملاً بين تحالفات متنافسة، وبدأت كثلاثية من المنافسات المترابطة على نحو فضفاض. وفي المشهد الراهن، بحسب براندز، أوجه تشابه مع سابقه. ولم يكن الصراع الأكثر فظاعة في التاريخ هكذا في بدايته عالمياَ، وبحسب تعبيره، لم يكن "صراعاً ضخماً متكاملاً منذ البداية". ولم تندمج الأزمات "إلا تدريجيًا، بسبب عوامل قد تبدو مألوفة اليوم". وتواجه أميركا وحلفاؤها "صراعات متعدّدة ومتشابكة". وقد دعا براندز إلى التفكير بشكل جدي في أن المزيد من التنافس والتوزانات العسكرية المتغيرة يخلق "مزيجا خطيرا"... والكلام الأخير ترجمة شبه حرفية لفكرة "الخلطة السرية"!.
بالإضافة إلى ما نشرته "فورين أفيرز"، وفي التوقيت نفسه تقريباً، صدر عن رئيس أركان الجيش البريطاني الجنرال باتريك ساندرز تصريح كان موضوع اهتمام إعلامي بأن بلاده قد تلجأ إلى "النفير العام" إذا خاضت حرباً كبيرة. وقال وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس إن "عام 2024 سيكون حاسمًا بالنسبة للمملكة المتحدة وحلفائها، فيه اتخاذ خيارات استراتيجية للدفاع عن أنفسنا". وقد دفع قوله هذا خبير الشؤون الاستراتيجية في معهد تشاتام هاوس البروفسور أندرو دورمان إلى التساؤل عما إذا كان ما يحذّر منه هو "الحرب العالمية الثالثة"، وضع دورمان يده على بعد رئيس في تأخر التصعيد العالمي، حيث تكلفة هذه الحرب لا تزال الرادع الأساسي أمام جميع الأطراف.
التطورات، التي تنتقل في الشرق الأوسط مثل كرة نار متدحرجة من غزّة إلى باب المندب ولبنان وسورية والعراق، انتقلت فجأة إلى الأردن، إحدى أكثر النقاط ضعفًا وهشاشة
والتطورات، التي تنتقل في الشرق الأوسط مثل كرة نار متدحرجة من غزّة إلى باب المندب ولبنان وسورية والعراق، انتقلت فجأة إلى الأردن، إحدى أكثر النقاط ضعفًا وهشاشة. ومع إصرار نخبة مجرمي الحرب الأسرائيلية على إبادة فلسطينيي غزّة وتدمير مقوّمات الحياة فيها، تقترب المواجهة، التي نحجت أميركا وحلفاؤها في منع اتساع نطاقها، من أن تخرج عن السيطرة في مكان يبلغ الغاية في الخطورة استراتيجياً، ويبلغ الغاية في الهشاشة سياسيّاً وعسكريّاً، من الهلال الخصيب إلى اليمن.
والحربان العالميتان السابقتان غير قابلتين للاستنساخ بالمفهوم السطحي للبحث عن أوجه التشابه والاختلاف، كما أن الأزمات المرشّحة للتصاعد على نحو متوقّع أصبح من الحتمي أخذها بمزيد من الجدّية كاحتمالاتٍ بدلًا من الإصرار على أنها "فروض مستبعدة"، وبدا غزو أوكرانيا لكثيرين كذلك حتى "ساعة الصفر"، وما حدث في "طوفان الأقصى" كان هو الآخر يبدو كذلك. وربما لم يتوقع معظم صنّاع القرار في المنطقة وخارجها في أكثر كوابيسهم سوداوية أن تنحدر المواجهة إلى الدرك الأسفل من مركب التطهير العرقي والقتل الجماعي والتجويع و...
والثقة المفرطة بالقدرة على منع الحريق من التوسّع ليست حلاً مأمون العواقب، والتجاهل المغرور للسخط الشعبي العربي والدولي الذي تسبّبت فيه جريمة الإبادة في فلسطين المحتلة، لا يستبعد أن يكون فتيل الانفجار، وبعد هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948، شهدت المنطقة العربية موجة تغيير سياسي امتدّت سنوات، وليس من المستبعد أن تتسبّب حرب غزّة في نتائج من النوع نفسه. والتركيز الغربي المهووس على ضرورة ألا تخرُج إسرائيل مهزومة هو ليس هدفاً "عقلانياً"، لا على المستوى السياسي ولا العسكري، والأزمات المحتدمة، الهادئة والساخنة، في سورية والعراق واليمن ولبنان والسودان، من الممكن في وقت قصير أن تتقاطع مع الحرب على غزة، بل مع ملفاتٍ أبعد جغرافيًا، ولدى أطراف دولية وإقليمية الرغبة في خلط الأوراق، والعواقب غير المتوقعة، من أزمة باب المندب إلى مفاجأة الأردن درسان بليغان ومن الخطر الإصرار على التعامي عن الحريق المحتمل.