الخوف من اختطاف البحر كلّه
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
من أجل أن تلامس رجلاك الحافيتان رمل البحر عليك، الآن، البحث عن ثغرةٍ مناسبةٍ لترك أثر قدميك، قبل أن تسفوه الرياح وتمحوه الأمواج. معظم الأماكن الجميلة أمام الأزرق الكبير صار يمكن أن يُقال، تجاوزاً وتجاوراً، إنّها اختُطِفَت. في مسقط، كان ثمّة أماكن بحرية عامّة اعتدنا على ارتيادها صغاراً، لا نستطيع الآن الاقتراب منها. أذكر أنّه من فترة قريبة ذهبتُ إلى برّ الجصة، وهو شاطئ جميل كان عامّاً إلى وقت غير بعيد، ولكن، حين حاولت الاقتراب من مُحيطه ونسيمه، اعترضني حارس الفندق، وطلب منّي الرجوع، إلا إذا كنتُ من روّاد المُنتجع؛ فرجعت. هذا الأمر يمكن ملاحظته، بخوف، في أماكن شتَّى من العاصمة العُمانية مسقط، والخوف الأكبر أن يزحف شبح هذا الاختطاف، ويأتي على ما تبقّى للناس من الأماكن البحرية العامّة. لا بأس إن كان المشروع حكومياً، والعادة، حين يكون حكومياً صرفاً، أن تراعى فيه رغبات الناس، وتُهيّئ لهم مماشٍ جانبية وفضاءات للسباحة والاستجمام والتريّض. وأحياناً، يتّسع الشاطئ الرملي لتشكيل فرق ومجاميع رياضية صغيرة. ولكن، الكارثة حين يكون هذا المشروع خاصّاً، ونحن نعرف أنّ المال الخاص لا يعرف الرحمة.
لا يمكنك، مثلاً، السباحة أمام الأماكن البحرية التي بُنيت بالقرب منها فنادقُ خمسة نجوم أو مشاريعُ فلل وشققٍ خاصّة، سينتابك شعور المُتّهم الخجول، ناهيك عن مرارة الشعور بالتفاوت الطبقي. مثل مشروع الموج، مثلاً في مدينة الحيل، الذي كان من قبل حديقة عامّة يدخلها الجميع، تُفضي بدورها إلى شاطئ يمكن لمن شاء أن يستحمّ فيه ويلعب. أصبحنا نشعرُ بالخوف من أن تُكتسح حتّى الأماكن القليلة المُتبقّية للمماشي والتريّض والسباحة، والتي بسبب محدوديتها تشهد اكتظاظاً، خاصّة قبيل وقت الغروب في فترات الصيف. تعتبر الشواطئ في عُمان متنفّساً وحيداً، تقريباً، للناس في الإجازات، خصوصاً حين يشتدّ الحرّ، وحين تندر الأودية الموسمية الجارية. وحين أسترجع شواطئ الطفولة، حيث عشت وتربّيت في مدينة مسقط على اتساعها وامتداداتها، أشعر بأنّ خريطة الشواطئ في العاصمة بدأت تضيق كثيراً. ولا توجد مرارة أكبر من أن تُمنع وعائلتك من زيارة شاطئ بحري بسبب أنّه مُقتصرٌ على القاطنين بقربه. اعتدنا منذ الطفولة أن نستحمّ بحرّية، ليقيننا أنّ الماء خلقه الله للجميع.
في القرى، مثلاً، لا أحد من الناس يمكنه أن يمتلك الفلج (كما هو حال البحر وشواطئه)، والفلج مَجرى مائي كان يقسّم مخزونه بين جميع المزارع، وبحساباتٍ دقيقة عادلة، والذين لا يمتلكون مزارع يمكنهم الاستفادة منه على طريقتهم؛ سباحة وسقاية ووضوءاً. والفلج يمتاز عادة بالطول، ويكون مفتوحاً ومحفوفاً بالأشجار، وخصوصاً أشجار النخيل. حتّى حين نكون في مسقط، يمكننا أن نستحمّ في أي شاطئ بحري مفتوح، ولنا ذكريات كثيرة في هذه الشواطئ ابتداءً من قنتب ووصولاً إلى بركاء. كنّا نذهب راجلين أحياناً بحثاً عن الماء للسباحة، إذ إنّ السباحة للأطفال هي متعة مضمونة، ولا يمكن الشبع منها، وكنّا نشعر بكرم الله الذي وهبنا بحراً عريضاً، ولكنّ البشر بعد ذلك كان لديهم رأي آخر. لقد أصبح الجشع كالسرطان؛ ينمو ويسور ويستحوذ.
عليك أن تبحث عن موطئ جسد لك ولعائلتك في الشاطئ كي تستطيع أن تستمع بالبحر. رغم ذلك، ثمّة شواطئ في مسقط فيها أماكن جانبية متاحة للجميع، لكنّ الخوف عليها أصبح قائماً، وذلك لأنّي أشاهد المشاريع (يأخذ أغلبها طابعاً خاصاً) تتمدّد وتنمو تحت ذرائع مدنية عمرانية يُعرض كثير منها في مزادات، بأسعار خرافية، لشقق وفلل، لا تلبث أن تتحوّل إلى حدائقَ خلفية لاستمتاع أصحاب المال والنفوذ، أو مشاريعَ تدرّ لأصحابها المال الوفير. ولأنّ الحياة لا يجب أن تضيق على الناس البسطاء والأُسر، إذ يشهد عدد السكّان في عُمان نمواً مضطرداً، فلا بدّ من استحداث قوانين تمنع الملكيات الخاصة من التمدّد في الشواطئ، وتسمح للناس بالاستفادة من أي شاطئ من دون مضايقات وموانع مستفزّة للعين والروح.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية