الدجاجة الذكية
في فيلم "أنشودة باستر سكريجس" للأخوين كوين، وهو مؤلف من ستة أفلام قصيرة مستقلة عن بعضها، أحدها بعنوان "تذكرة إلى وجبة طعام"، يتحدّث الأخوان فيه عن مسرحي عجوز يجوب المقاطعات بعربته التي يحوّلها إلى خشبة مسرح عليها كرسي يجلس عليه ممثل شاب مقطوع اليدين والرجلين، يلقي الممثل خلالها مقاطع كلاسيكية مختلفة، مثل قصيدة "أوزيماندياس" للشاعر الإنكليزي شيلي، وقصة هابيل وقابيل من العهد القديم، ومقاطع من السوناتا 29 لشكسبير، وخطاب لأبراهام لينكولن. يتفاعل الجمهور بدايةً مع عروض المسرحي العجوز الذي يطوف عليهم بقبّعته التي يلقون له فيها مبالغ لا بأس بها، تكفي لمتابعة الحياة له وللممثل العاجز. لكنّ الأمور تسوء يوماً بعد يوم، فتفقد عروض المسرحي بريقها، إلى أن تنطفئ بشكل كامل في نهاية المطاف، فيقف العجوز حائراً في ما يفعله، وينتبه إلى تجمع من البشر يصفقون، بين فينة وأخرى، فيذهب إلى هناك، ليجد زميلاً له يقوم بعرض يعتمد فيه على "دجاجة عبقرية" يطرح عليها الجمهور عملية حسابية، فتحلّها الدجاجة الذكية لهم، عبر النقر على رقمٍ في لوحة أرقام عُلقت خصيصاً لذلك، كأن يقول شخصٌ من الجمهور، مثلاً، "ثلاثة زائد أربعة" فتنقر الدجاجة على الرقم سبعة.
يعجب ذلك المسرحي العجوز، ويقرّر شراء الدجاجة من الرجل، ويسافر بعربته من أجل إقامة العروض على هذه الدجاجة الذكية التي سيدرّ عليه ذكاؤها أرباحاً طائلة. وخلال الطريق، نشاهد في صندوق العربة كلّاً من الدجاجة والممثل الشاب الذي أصبح عبئاً على الممثل المسرحي العجوز. وفي أثناء سير العربة في مناطق جبلية مغطاة بالثلوج، يصادف العجوز نهراً فوقه جسر، فيترجل من عربته، ويأخذ حجراً كبيراً، ويقف فوق الجسر ويلقي به في النهر، ليعرف عمق المياه، ثم يعود ليتابع سيره، وتعود الكاميرا لتأخذ العربة من الزاوية السابقة نفسها التي كنا نشاهد في كادرها الممثل العاجز والدجاجة. لكنّنا الآن لا نشاهد في العربة غير الدجاجة وكرسي الممثل الفارغ. لقد تخلص العجوز من ممثله العاجز الذي انتهت صلاحيته.
القصة مؤلمة من الناحية الإنسانية، لكنّنا إذا أمعنا النظر نكتشف أنّ هذا يكاد يكون قانوناً، أرحم أشكاله وأكثرها سلاسة هو التقاعد، وأكثرها شراسة تلك التي تحدُث في السياسة، وبالتحديد في الأنظمة الديكتاتورية، حيث يظن معظم الذين يأتون بعد الديكتاتور في المرتبة أنّهم أبطال المشهد، فيفتون ويقرّرون، ويستعرضون أهميتهم وسطوتهم. وسيُبقي صاحب الكرسي عليهم، ويبدي رضاه عن أدائهم، طالما الجمهور يتفاعل معهم، لكنّ تلك الساعة التي ستنتهي صلاحياتهم بها لا بد آتية، وعندها سيأتي دور الدجاجة. لكن مع فروقٍ عديدة، يعتبر ثانيها أنّ المسرحي العجوز استبدل ممثلاً بدجاجة. أما صاحب الكرسي فيستبدل دجاجة بدجاجة. الفرق الثالث أنّ صاحب الكرسي لا يعثر على دجاجه مصادفة، كما حصل مع المسرحي، وإنّما لديه مداجن كاملة على شكل أحزابٍ ومنظماتٍ تحتوي على ملايين من تلك الطيور الخانعة الجاهزة لتحلّ محل الدجاجة التي انتهت مدة صلاحيتها. وستخرج هذه الدجاجة منتهية الصلاحية من الحلبة، إما على شكل سفير في دولة أجنبية ما، نوعاً من تطييب الخاطر، أو على شكل مستشار في أمر ما، نوعاً من تطييب الخاطر أيضاً، أو إن استدعت الحاجة على شكل انتحار برصاصتين في الرأس، في حال لم يسعفها الوقت في الحصول على لجوء في دولة أخرى، حيث يمكن لها هناك أن "تقاقي" لكن من دون بيض. الفرق الأول والأهم أنّ المسرحي العجوز يستبدل ممثله فاقد الصلاحية بدجاجة ذكية، أما صاحب الكرسي فهو شديد الحرص على أن يستبدل دجاجته منتهية الصلاحية بدجاجة غبية أخرى، إذا قال لها الجمهور "خمسة زائد خمسة" مثلاً، فهي ستنقر على الرقم أحد عشر أو على الرقم تسعة أو على أيّ رقم آخر باستثناء الرقم الصحيح، ذلك أنّ دجاجة صاحب الكرسي تبدأ صلاحيتها بالانتهاء طرداً مع بداية ظهور علامات الذكاء على سلوكها، ساعتها يكون قد حان موعد استبدالها.