الدولة الواحدة بين المتخيل والواقع والمنطلق الوطني الفلسطيني
لم تكن الدولة العلمانية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني متخيلا غير واقعي في وعي النخبة القيادية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) التي أطلقت شرارة الثورة الفلسطينية في مثل هذه الأيام من عام 1965، وتبنتها تاليا منظمة التحرير الفلسطينية. لم تكن مجرّد حلم لشعبٍ طرد من أرضه، بل هدف نهائي يرسم مسار النضال الوطني، بغض النظر عن متغيرات موازين القوى الدولية والظروف السياسية المتبدّلة للشعب الفلسطيني أينما وجد. سيما أنها حدّدت الملامح الأساسية لهذه الدولة، بوصفها دولةً يتساوى فيها مواطنوها من دون أي تمييز في العرق والجنس والدين، يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود بسلام. لذلك حين يجري الحديث عن "الدولة الواحدة" على أرض فلسطين التاريخية حلا مقترحا يتيح إمكانية منطقية وعادلة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي فهو مبدأ ليس جديدا. بل طُرح من بدايات انطلاقة الثورة الفلسطينية منذ 57 عاما، قبل احتلال بقية الأراضي الفلسطينية عام 1967، بل هو المبدأ الذي تم تجاهله حين وُقِّعَت اتفاقية أوسلو التي نصّت على "حل الدولتين" (الجائر؟)، وتجاهل أصل القضية الفلسطينية التي نشأت مع الاحتلال الإسرائيلي إثر نكبة عام 1948، وتاليا "الدولة الواحدة" العلمانية الديمقراطية ليست خيارا للشعب الفلسطيني، بل قدر وحيد ومحتوم. وهذا يعني أن السير باتجاه هذا القدر هو الطريق المنطقي والوحيد للنضال الوطني الفلسطيني القديم والمتجدّد. فقط، تصبح إزالة العقبات دونه السؤال المتجدّد، ليس لحركة فتح وحدها، سيما لقواعدها الشابّة المخلصة، بل أيضا لعموم الفلسطينيين والفلسطينيات.
علت أصوات عديدة، أخيرا، تعتبر "الدولة الواحدة" خيانة في حق الشعب الفلسطيني. وفي هذه الأصوات نوع من قصر نظر، بل ربما تحمل نوايا سيئة "متعمدة"، تعمل على التشويش على أي محاولة للخروج من النفق المظلم الذي تمرّ فيه القضية الفلسطينية. ولأن هنالك دائما نقطة ضوء يجب أن يبدأ منها الخروج من النفق، فلا بأس في العودة إلى البدايات. ليس لأن النخب الفلسطينية عاجزة عن اجتراح حلولٍ تواصل به النضال الوطني برؤية وطنية جديدة، بل لأن مشروع الدولة الواحدة لم ينفذ، أو بالأحرى لم يأخذ حيزه من التطبيق الجدّي. سيما بسبب دخول القضية الفلسطينية، طوال تجربتها النضالية المعاصرة، إلى متاهات عديدة. كان للتبعثر الداخلي، قبل التحدّيات والتعقيدات الإقليمية والدولية، حصة الأسد فيها، فقد انتاب "فتح" والفصائل الأخرى الوهن بسبب انحرافها عن مبادئ عديدة انطلقت من أجلها. بل شاب سلوك قياداتها مظاهر فساد سياسي وسلوكي تجسّد بأساليب عشائرية ذكورية في "عقلية الأبوات"، فضلا عن المحسوبيات "لجمع الولاءات السلطوية"، كما ظواهر الفساد المادي الذي طاول الفصائل كافة، وعلى مدار 57 عاما هي عمر الثورة.
مشروع الدولة الواحدة لم ينفذ، أو بالأحرى لم يأخذ حيزه من التطبيق الجدّي
نعم، مياه كثيرة جرت تحت هذا الجسر، لكن ذلك لا يعني أن المضامين النضالية الوطنية لهذه الدولة لم تعد صالحة اليوم، كما غيرها من المبادئ، ولكنها تحتاج المراجعة والتقويم، إنْ لجهة أشكال النضال، أم لجهة الخيارات التكتيكية التي تصبّ في هذا المبدأ، فما لم يعد صالحا وغير مقبول هو تلك الممارسات والانقسامات والسياسات التي أوصلت الشعب الفلسطيني إلى هذه الحالة المزرية، على الرغم من شمسٍ تشرق هنا وضوء ينبعث من هناك بين حين وآخر على شكل انتفاضاتٍ وهبّات آخذة في النضوج والتطور، لن تلبث إلى أن تصل إلى مبتغاها، وهي "تجديد الثورة". وهي خطوة ينتظرها الجميع، وبتصوّرات متنوعة تحتاج أن تختمر في أوساط النخب الميدانية الشابة، وتفرز أطرا وقيادات بديلة شابة "بالضرورة" عن تلك "القيادات الفاسدة المرتهنة" التي فرّطت بمصالح شعبها لمصالح إقليمية ودولية لقاء حفنة من الدولارات والتنافس على الزعامة، وجعلت من أبناء الشعب الفلسطيني وقودا لارتهانها، سيما سلطتي رام الله وغزة. هذا ناهيك عن خرق قيادات "فتح" نفسها مواثيق النظام الداخلي ومبادئها الوطنية، وعطلت الآليات الديمقراطية التي يجب العمل بها للتقييم والمراجعة وتصحيح المسار. وهو ما أثر على آلية تطبيق المبادئ التي قامت "الثورة" من أجلها، وفي مقدمتها تحرير فلسطين كل فلسطين وإقامة الدولة العلمانية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني، والذي لو أعيد العمل بها ليس داخل فتح وحدها، بل أساسا داخل مؤسسات منظمة التحرير، شرط إعادة إحيائها على أسس تمثيلية ديمقراطية، فإن ذلك سيدفع الشعب الفلسطيني إلى طرح السؤال الأكثر جرأة على نفسه: كيف؟ كيف نفعل ذلك في ظل واقع إسرائيلي متنام بتطرّفه وغِيِّه في انتهاكات يومية بحق الشعب الفلسطيني تزداد توحشا ولصوصية، ولا تقيم وزنا للاتفاقات والقرارات الدولية. كيف يمكن لهذه الدولة أن ترى النور في ظل وقائع على الأرض وموازين دولية وإقليمية غير ملائمة، تتلازم مع استشراء "المضمون الصهيوني" لدولة إسرائيل بوصفها استعمارا استيطانيا إحلاليا. سيما مع تنامي" نظام الأبارتهايد" فيها وقوانينه العنصرية ضد الشعب الفلسطيني عبر "القانون القومي اليهودي" و"تشريع سرقة أملاك الفلسطينيين" في القدس (حي الشيخ جرّاح مثالا)، و"قضم مزيد من الأراضي في الضفة الغربية وإنشاء المستوطنات عليها" و"التطبيق غير الشرعي لضم مزيد من أراضي الضفة"، إلى جانب جدار الفصل العنصري وتقطيع أوصال المدن والأحياء الفلسطينية المحتلة عام 1967، والتي كان يفترض أن تقوم عليها دولة "اتفاق أوسلو"، ولا يُنسى بالطبع حصار غزة. فضلا عن إجراءات تهويد القدس عبر السنين، خصوصا سحب الجنسية من كل من يغادر القدس من الفلسطينيين ثلاثة أشهر أو يحصل على جنسية أخرى (لا يطبق هذا على اليهود وغالبيتهم يحملون جنسية مزدوجة). ذلك كله وأكثر بكثير من ممارسات عنصرية يومية تمارس بحق أهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948، فضلا عن عدم تطبيق قرار الأمم المتحدة 194 بشأن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. .. إلى غير هذا كله من قرارات واعتقالات لآلاف الأسرى والأسيرات والأطفال.
حين يجري الحديث عن "الدولة الواحدة" على أرض فلسطين التاريخية حلاً مقترحاً يتيح إمكانية منطقية وعادلة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي فهو مبدأ ليس جديداً
من هنا، يصبح السؤال كيف نقيم الدولة الواحدة العلمانية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني سؤال "الثورة المتجدّدة". ومن هنا أيضا، يجب أن تبدأ حملات متواصلة وطنية وسلمية دؤوبة ضد "القوة العنصرية" التي يتجذّر فيها نظام الفصل العنصري، بتجلياته القانونية وغير القانونية، بهدف تقويض هذا النظام وتفكيك المضمون الصهيوني لدولة الاحتلال، وتثبيت السردية الوطنية الفلسطينية بمواجهة السردية الصهيونية الهشّة. وجنبا إلى جنب مع مواصلة التصعيد في فضح "نظام الفصل العنصري" في كل المحافل الدولية، وبالتوازي على مستوى الرأي العام العالمي، دولا وشعوبا، خصوصا مع وجود قانون دولي يجرّم العنصرية ونظام الفصل العنصري أينما وجد. بل يصبح فضح أي دولةٍ تدعم نظام الأبارتهايد الإسرائيلي أمام شعبها نضالا وطنيا وواجبا أخلاقيا لأحرار العالم، يساهم بالضغط على حكومات هذه الدول وبرلماناتها، تماما كما حصل في انتفاضة مايو/ أيار 2021 التاريخية"، من حملات منظّمة على جميع مواقع التواصل الاجتماعي شوّهت سمعة إسرائيل حتى بين اليهود أنفسهم في الغرب. وأضعفت صورة الضحية التي تقنّع خلفها الساسة الإسرائيليون، لتحل الضحية الفلسطينية محلها وتدقّ بعذاباتها على جدران الضمير الإنساني في العالم.
العمل الدؤوب والمثابر بغير تقطع وانقطاع في فضح نظام الأبارتهايد شرط (ومهمة) القادة الجدد المستقبليين من أبناء الشعب الفلسطيني وبناته في شوارع المدن وحاراتها في فلسطين التاريخية، كما في الجاليات المنتشرة عبر العالم. هو طريق الجلجلة الجديد الذي سيفكّك المضمون الصهيوني العنصري لإسرائيل، والذي يمكن أن يقود إلى إيجاد شركاء إسرائيليين صادقين "غير صهيونيين"، يمكن التحدّث معهم بعيدا عن نظام الفصل العنصري الاستيطاني الإحلالي، للبحث عن فرصة ما في طريق "الدولة الواحدة" لجميع مواطنيها. ولكن من غير التفريط قيد أنملة بحقوق اللاجئين وحقهم بالعودة إلى أراضيهم، بل والحصول على تعويضات عن سنوات اللجوء والتشرّد التي عانوها وما يزالون يعانونها، فضلا عمّا عاناه أجدادهم وجدّاتهم وآباؤهم وأمهاتهم في مخيمات اللجوء والشتات، وما يزالون.
السؤال كيف نقيم الدولة الواحدة العلمانية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني سؤال "الثورة المتجدّدة"
الدولة الواحدة حل يبحث عن مصلحة الفلسطينيات والفلسطينيين أينما وجدوا، لكنه حل يُجبر الشعب الفلسطيني أن يبحث عن نقاط تقاطع مع شركاء من الشعب الإسرائيلي يؤمنون بهذا الحل، ويسعون جنبا إلى جنب مع الفلسطينيين على تقويض نظام الأبارتهايد الذي يهدّد وجودهم، بقدر ما يهدّد وجود الفلسطينيين ومستقبل أبنائهم. والقضية الفلسطينية لا تشبه أية قضية، إن في مضمونها وتداعياتها المرعبة على الفلسطينيين، أو على السلام العالمي، أو في توسط "ساحة المواجهات في فلسطين" قارّات العالم القديم في مفترق استراتيجي حسّاس، لا يمكن تجاهل تأثيراته السياسية والعسكرية الجيوسياسية على هذه القارّات، وامتدادا لتأثيرها الحضاري في التاريخ الإنساني حيث بدأ كل شيء، كمهد جامع للديانات السماوية الثلاث الأكبر تأثيرا في تاريخ البشرية وللتفاعل الحضاري الإنساني عبر التاريخ. وسيشكل تجاهل حل القضية الفلسطينية عبئا ثقيلا لن تتمكّن البشرية تحمّل وباله، بل سيشكل تكرارا مرعبا لذاكرة بشرية محمّلة بفظاعات الحروب ما تزال تعيد إنتاج الفظاعات نفسها. ومن هذه الاعتبارات، إنْ لم يتعاون الجميع على وقف هذه الفظاعات التي تمارسها إسرائيل على الفلسطينيين، لن ينجو أحد من وبالها وما ستتركه هذه الفظاعات من إرثٍ بغيض لأجيال من البشرية قادمة يستمر قرونا.
نظام الأبارتهايد الإسرائيلي الآخذ بالتطور في السنوات الأخيرة بوحشية غير مسبوقة، وبوتيرة متسارعة، مستفردا الفلسطينيات والفلسطينيين، هو شر مستطير يهدد الجميع. شر يستغل انشغالات العرب بحروبهم الإقليمية ومآزقهم وحروبهم الداخلية، والعالم "بكوفيده 19"، وهو ما يتطلب حلا مستداما قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة. وهذا الحل هو بيد الأجيال الفلسطينية الشابّة أينما وجدوا، وكي لا تبقى "الدولة الواحدة" العلمانية الديمقراطية لجميع مواطنيها سجينة المتخيل. يتعايشون فيها متساوين بالحقوق. هذا المسار سيفكّك أيضا "منظومة الفساد الفلسطينية" المهيمنة على مصير الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية، وفي مخيمات اللجوء وكل أنحاء الشتات، لكنه يتطلب وعيا عاليا وأشكالا نضالية متنوّعة تعطل القوة العسكرية الغاشمة لجيش الاحتلال في الداخل، لا يتمكّن معها من استخدام طائراته وصواريخه، فيما يتكبّد من سمعته ما لن يُنسى عبر التاريخ، بما يضمن عدم قيام نظامٍ كهذا في مستقبل البشرية جمعاء.