الرجل الذي مكر بالمكر نفسه
كان كثير من الناس في الشرق والغرب ينتظر خطبةً من الرجل الملثّم بالأرض والأنقاض، المقنّع بالشعب والتاريخ، الذي استقوى بالأنفاق، وليس بالكهوف والجبال الوعرة كما في أفغانستان، أو بالغابات كما في فيتنام، فهي أكمنة وأوقية طبيعية، وكان عليه وعلى شعبه أن يحفر عميقاً في الأرض (وفي السماء)، وقد صارت صورة له مسروقة بالكاميرات تجول الأرض بالطول والعرض، حصل عليها الغزاة غنيمةَ حربٍ ليس كمثلها، فتباهوا بها كما تباهى حزب الله بصور حيفا ومينائها ومنشآتها، التي اختلسها بالمُسيَّرات.
لم يكن مثلنا أو مثل نجوم السينما مغرماً بالصور، في عصر الصورة و"السيلفي"، فحصل على صورة لم يظفر بها قادةٌ كثيرون، صورة لم يحصل عليها ياسر عرفات، الذي مات على الأرجح مسموماً في سريره، وهو يرتجف بين أيدي الأطباء. وكنت أريد أن يخرج وهو محاصر في مقرّ الرئاسة، ويقول: اقتلوني إن استطعتم أيها الجبناء. البطولة أن تختار طريقة موتك لا طريقة حياتك.
لماذا أبرز الغزاة صورته مقتولاً، مسجَّى بين الأنقاض، وقد ندموا عليها أشدّ الندم، ذلك لأنّهم كانوا يريدون أن يقولوا إنّ جند جيش "الهجوم" أبطال، كانوا يريدون أن يأسروا "كينغ كونغ" ويستعرضوه في الأقفاص، والسيرك السياسي. لقد قتلوا القائد الذي خدعهم مرّتَين، مرّةً وهو في السجن، الذي قضى فيه 22 سنة، يوهمهم بضعف حركته ووهن شعبه، وبقوّة "إسرائيل التي لا تقهر"، ومرّة عندما قاتلهم ملثَّماً، حتّى الرمق الأخير، فصرعوه ليعيش حياةً أبديةً، فأمسى بطلاً بألف وجه ووجه؛ ساموراي في اليابان، قهرمان في تركيا، هيرو في أميركا والغرب. "فإنَّنِي رَأَيتُ الكَريمَ الحُرَّ لَيسَ لَهُ عُمرُ".
قال عثمان بن عفان، وقد أرتج عليه: "أنتم بأحوج إلى إمام فعّال منكم لا إلى إمام قوّال". وكانت الأمم كلّها تنتظر خطبته، يتحدّث فيها عن شروط التبادل مثلاً، يردّ بها على الأكاذيب التي تساق ضدّه مثلاً، وكان فصيحاً، بليغاً، لكنّه خطب خطبة ليس كمثلها، وقد أسرفوا في وصفه بالجبان الذي يختبئ في الأنفاق، كي يدفعوه إلى الظهور والبروز ليقتلوه، وقد فعلوا، وأعلن عددٌ غيرُ قليل من زعماء "العالم الأول" نهاية الشرّ، وبداية صفحة جديدة في عالم سعيد، عن كوكب جديد، وتحويل غزّة "ديزني لاند"، وكانوا يعيرونه بالدروع البشرية التي يفتكون بها، وبالأنفاق، والأنفاق عميقة، وكأنّها منتجع، والأنفاق يضيق فيها النَّفَس وهي ضيّقة لا شمس فيها ولا ماء ولا طعام، هي سجن اضطراري، متراس، ضرورة حرب، زنزانات مظلمة خانقة. ثمّ خرجت وسائل الإعلام تتّهمه بحيازة مبلغ كذا قدره، كي ينفقها على "ملذّاته الشخصية"، وزعم زاعمون أنّ رجل مصر الثاني وشى به في مقابل مبلغ قدره 15 مليار دولار، وهي أكبر جائزة مالية معروفة لمطلوب حيّاً أو ميتاً، وحسنٌ أنّ مكرهم لم يبلغ اتهامه بتعاطي المخدّرات.
قطعوا سبّابته من أصلها، وكان يمكن أن يكتفوا بخزعة صغيرة من لحمه المتناثر بين الأنقاض، أو أن يأخذوا شعرةً من رأسه، أو أن يأخذوا قطرة دم متخثّرة كي يفحصوها، لكنّهم بتروها خوفاً منها، فانتقل في أسرع مركبة من تحت الأرض إلى السماء العُليا، فوقعوا في حيصَ بيص. زعم الماكرون أنّه خرج لكي ينتحر انتحاراً شرعياً خجلاً من نفسه، بعد أن دمّر غزّة، و"تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا".
الناس تعشق البطولة، وبطولات السينما الأميركية واليابانية والعالم بعامّة، بطولات متخيّلة، "فنكوشيه"؛ جيمس بوند، أرنولد شوارزنيغر، رامبو، زادوتشي، بروس لي، جاكي شان، الزير سالم، فريد شوقي، بطل السينما يقتل الأشرار (والأخيار)، وتقع النساء في حُبّه، هو مسوَّر دوماً بسوار من الجميلات العاريات في بوسترات السينما، يدخّن السيجار مثل غيفارا أو تشرشل، كي يقول إنّه تنّين بشري، انتقلنا من البطل العضلة إلى البطل الحنجرة، البطل الراقص، والبطل البوستر، البطل الذي يمشي على السجّادة الحمراء في مهرجان سينمائي، وها هوذا يمشي على سجّادة حمراء من دمه، يستحيل قتله بعد قتله... أفكّر في زوجته وأبنائه.